سياسة
أنظر، وأنا أفك عنان بصري، سابحا بعيني في الفضاء، متأملا آفاق الكون، محلقا نحو ما أشعر به ولا أراه، فأجدني في بيتٍ من بيوت مكة، به هوةٌ لا تكشف عيني خلفها، لكنها نافذة إلى العالم المظلم حولي، أدقق النظر ولا أكاد أستوعب من في مرماه، لكني أراه رأي العين، قمرا وحيدا في الظلام، بشرا كملاك في هالة من نور، يتهدّى لمسامعي منه أنين مكتوم كأزيز المرجل، وتزيد بالدمع مساحة الضياء توهجا، وكأني برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحده في مسيرته، مستوحشا بالخلق مستأنسا بالله يتلو الوحي، لكنَّ في صدره حاجةً، وهو أعزل بلا أبي بكر يصدقه، وخديجة تدثره، وعلي يفديه، وعثمان يزوده، وعمار يموت لأجله، وابن عوف يطلق الدنيا ويتبعه، وصهيب يخاصم ماضيه المترف ليصنع بصحبته حاضره ولو في ثوب رث، أتخيّل ماذا لو كان من دونهم، مجردًا من عونهم وربتات أيديهم على كتفيه الشريفتين، ماذا لو كان رسول الله من غير المؤمنين الأوائل.. كيف كانت ستكون دعوته، أو كيف كانت ستولد ثم تكبر ثم تنتشر؟
وأنظر، فأرى نبي الله نوحا، يبني في الفراغ سفينته، يضع الخشبة جوار الخشبة، وتكاد الحبال تمزق كفيه وهو يحكم الوثاق، يدعو القوم للنجاة مقدما، وهو يعرف ما سيجري بعد قليل، لكنهم يقابلونه بالضحك، ساخرين منه، مستهزئين به، متندرين عليه، وهو واجم متعَب، في وحشة الطريق، وندرة الرفاق، لا أحد -إلا قليل- يصدقه، يدعو الناس بأعلى صوته ومجمع طاقته وزهرة عمره، فيجيب الصدى: لا أحد؛ فيواصل البناء والدعاء، والسفينة في الرمال، والقوم في غفلة، والساخرون في غمرة، والله في السماء يجري السحاب ويفجر الأراضين، ويغرق المكذبون، ويهلكون، ويندمون، ويمدون أيديهم فتعود فارغة، ويجيبهم الموج: لا أحد. بينما سيدنا نوح وحده وحده، وما آمن -ولا نجى- معه إلا قليل.
أتخيل تلك المعجزات على أيدي الأنبياء كم آمن بها قلة وكم كفر بها كثر، وكم جاهد هؤلاء القليلون أن يكونوا كثيرًا بعزمهم وجلدهم، وأن يغلبوا الشكوك والحجج بعميق إيمانهم، وأتخيل أولئك الرسل والأنبياء وهم وحدهم مستوحشين إن كذب بهم قومهم، مستأنسين بمن صدقهم وآمن معهم، فجعلوا لهم الدرجات العلى، ووقعوا من نفوسهم مواقع كسدرة المنتهى، وكتبت لهم النجاة بحق ذلك اليوم الذي نجّوا فيه -بإذن الله- أنبياءهم ومعجزاتهم من الذهاب سدى، لكن ذلك لم يكن يتوقف على الإيمان وحده، وإنما تتبع الإيمان أفعال التضحية والفداء، فيمضي النبي، وتجري السفينة، ويُدمى الصادقون المصدقون.
ثم أقتبس من نور رسول الله رباط عسقلان، ومن النبي نوح محنة الطوفان، فأصل إلى غزة هاشم، لأجد فيها هؤلاء القوم، الذين قاسوا ما قاسوا، وعانوا المرارات كلها، ورأوا الشدائد فشهدوها واستشهدوا فيها بعد أن أكلت من لحومهم وأعمارهم، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، يوم زاد على الاحتلال الطويل حصار مطبق ألف عدوان مفجع، فلم يُثنهم ذلك عن الإيمان بصدق الطريق التي هم عليها، مصابرين مرابطين.
ثم وهم على ما هم عليه فوجئوا بذلك الصباح الذي طلعت فيه آلاف الأقمار تحت نور الشمس، تجلب الضوء من مصدره، وتصنع الأشعة بنفسها، وتسرج القناديل من دمائها لا الزيت، ثم بلغهم الخبر أن ذلكم الطوفان الذي يحملونه ويحملهم، ويجري بين أيديهم وبأيمانهم، وهو على شدته وقوته وحقيقته المزلزلة واقع بهم، قضاء الله في ملكوته، وحقه الذي يجريه على سواعد جنوده.
نظر أهل غزة فوجدوا الذين يركبون أمواج الطوفان بنوهم وفلذات قلوبهم الذين كانت أحلامهم ركوب دراجات هوائية جديدة، لكنهم اليوم في ثياب أخرى غير الطفولة واللهو، فرسانا يعرفونهم كما يعرفون نور الله، أفيكفرون بهم؟ فآمن أهل غزة بالطوفان الذي كانت تلك بشارة فيضانه، وخبر انتصاره، وعلو أمجاده، لكن ثمن كسر السدود واستسقاء الغمام وتفجير الينابيع ثقيل، ولن يتوقف الأمر عند لحظة صعق العدو والإثخان فيه، وإنما ستتبع الصولة جولة، والكرة غارة مقابلة، لكن ذلك لم يبدل من إيمان أهل غزة شيئا، فثبتوا، وكانوا أول المؤمنين، ونعم الحاضنين.
وجد أهل غزة يوم السابع المجيد فتية في عمر الزهور يركبون دراجاتهم النارية يريدون أن يعبروا بها المستحيل نفسه لا مجرد أسيجة فاصلة، ورأوا في قرص السماء مظلات يدوية يحلق بها مقاتلون بلا أجنحة، ولاحظوا في البحر سلاحف بشريةً تغوص آلاف الأمتار حتى مواقع الإبرار -وقد كان مصطلحا طازجا أضافته غزة للقاموس يومها-، وفركوا عيونهم فوجدوا عيالهم يعودون في صناديق السيارات ومقاعد الموتوسيكلات بأسرى من جيش العدو، بالجملة، وقد كان الوصول إلى أحدهم حلما يستغرق تحقيقه عشرين عاما من الانتظار والتخطيط والسداد، ودارت عيونهم في الأفلاك حولهم فوجدوا كتائبهم البسيطة المحدودة منتصرةً وجيش العدو المدجج المحصن الممدد المدعم ممرغا في التراب، ووضعوا أيديهم على الحروف فوجدوها تستحيل كلمات غير معقولة في كتاب التاريخ، ثم وضعوا أيديهم على السطور والآيات في كتاب الله فوجدوا اللامعقول بأمر الله ممكنا، بمكره وبسعي عباده وبدحر أعدائه.. فازدادوا إيمانا مع إيمانهم!
ثم بدأت الضراء بعد السراء، وزلزل أهل غزة حتى تشققت الأرض من تحت أقدامهم، وتشققت أقدامهم، وامتلأت حياتهم كل يوم بفجوات هائلة، مع كل حفرة منها تفقد قطع من الروح والأحباب والبيوت والأرض، وأُمطروا بألعن أسلحة الكوكب الفتاكة، واشتعلت النيران فيهم وهم أحياء، وبُترت أطرافهم وعميت أبصارهم، ونزحوا في العام عشرين مرة، وفي كل مرة ينقص الحمل على ظهورهم شيئا فشيئا، ومع كل نقصان يزداد حمل من نوع آخر جديد، وفقدوا ما فقدوا ومن فقدوا، وفُقد أحبابهم من دون خبر، ودفن أحبابهم من دون وداع، وشيع أحبابهم من دون جثامين، واختُزلت حيوات وميتات أرواح أرواحهم في أكياس بلاستيكية بيضاء، وعلب من الورق المقوى، واجتمع شياطين الإنس عليهم بكل ما تفتّقت إليه عقول مصاصي الدماء، وخانهم الأراذل الأسافل شذاذ الآفاق في بلاد الإخوة والجيران، فما زادهم إلا إيمانا وتثبيتا!
فيا أهل غزة، وإنكم لأعلى مقاما بآلاف المرات من أن يخاطبكم قاعد مثلي وأنتم أرباب الأفعال ونحن ذوو الثرثرة، كل ذلكم الإيمان لا يضيع سدى، ولا يذهب عند الله هباءً منثورا، وإنما أجره كله على الله، عز وجل الذي لم يرد أن ينصركم أكثر الخبثاء، ليجعل معركتكم خالصة، كما إيمانكم الخالص، ولعلكم لو ذهبتم إلى الله وذقتم ما لكم في الفردوس الأعلى بإذنه ولا نزكيكم عليه، ورأيتم ما أعد لأجلكم، لطلبتم أن تعودوا إلى تلكم المحرقة فتقضون فيها من جديد، وإن ذلك ليس من مسكنات ولا مخدرات العاجزين، وإنما مثبتات المؤمنين الصامدين المرابطين، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وإن كان النبي يبشر أوائل المؤمنين به، الذين سمعوه ورأوه وعاشوا معه وسألوه وأجابهم، بالجنة وغيرها من البشائر، فما الذي ينتظركم وأنتم صدقتم بالفعل الكريم على خطاه، من دون رؤية ولا سماع ولا سؤال؟!
إنما أنتم المؤمنون بمعجزة من دون نبي، وإنكم كصحابة من دون رسول، وإن أولادكم لسيوف الله مسلولةً من دون خالد بن الوليد، وهم جميعا خالدون! فلا أحد أولى بالطوفان منكم، ولا أحد يستحق الحديث في ذكراه غيركم، ولا كلام يستدعي أن يقال من دونكم، وأنَّى لنا إيمانا كإيمانكم ولم نعش -ولم نمت- مثلكم ولم نختبر اختباركم، لكنه اقتباس الحيارى من الثابتين، وتقرب الجهلة من العارفين، والتماس المسلمين آثار الأولياء الصالحين.