سياسة
تسير المنطقة العربية بثبات نحو حلقة جديدة من الاستعمار الأجنبي القديم، دون مواربة. حقبة قديمة ستعود بمستعمرات ليست مضطرة للحشد العسكري في المنطقة، الاستعمار فيها بإرادة حكام المنطقة وكامل أهليتهم! إعادة التموضع السياسي سيبدأ من اختبار فلسطين، للفرز بين حكام يشتهون السلطة وبنفس اليد التي تخنق شعبها تسلم على المحتل وتحميه. و ستنتفض الشعوب ضد الاحتلال و القهر في آن معا، وسيشهد التاريخ.
إيران تناور
ما حدث في الأيام الأربعة الأخيرة فضلا لأنه يؤسس لعودة الاغتيالات العملياتية والسياسية إلى الشرق الأوسط كما كان الحال في الفترة بين الستينات وحتى الانتفاضة الثانية في عام ٢٠٠٠، فهو بالتأكيد استفز إيران وأطاح برَجُلِها الأهم في المنطقة السيد حسن نصر الله. إيران في خطابها السياسي اختارت المرشد الأعلى وليس رئاسة الحرس الثوري. خامنئي صدّر بوضوح حزب الله رأس حربة في الرد على اغتيال قائده الأهم نصر الله، ووضعت نفسها وقوات الحرس الثوري في الصف الثاني ”الداعم“ للحزب. كذلك امتد الخطاب واستحث ”كل قوى المقاومة“ شاملا بذلك ربما المقاومة المسلحة في فلسطين وعلى رأسها حماس. من ثم تلكأت إيران منذ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية حتى بعد إتمام عملية المفخخات الاتصالية ضد قيادات حزب الله.
واشطن تعيد مترسة إسرائيل
البيت الأبيض بالتأكيد لم يغب عن هذه المناورة، وفهم ما وراءها. إذ جاء مباشرة بعده تحذير من وزير الدفاع الأمريكي لويد جي أوستن في بيان للبنتاجون لإيران و“امتداداتها“ العسكرية في إشارة لباقي قيادات حزب الله وقوات الحرس الثوري في العراق وسورية وجماعة أنصار الله في اليمن من استهداف المصالح الأمريكية أو أي من قواتها في المنطقة. وأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية يوم الثلاثاء عن قرارها إرسال قوات إضافية يتراوح قوامها بين ألفين إلى ثلاثة آلاف مقاتل، ليفوقَ عديدُ القوات الأمريكية إلى الشرق الأوسط الأربعين ألفا، للدفاع عن إسرائيل – نصا في بيان البنتاجون.
تعهدت البنتاجون بدعم إسرائيل لا بعديد القوات الإضافية المقاتلة وحدها، وإنما بسرب من مقاتلات F 15 و F16 و F22 و A10 لم تفصح البنتاجون عن عددها، هذا الكرم ليس لإسرائيل وحدها، وإنما ليعزز ترسانة القوات الجوية والبحرية الأمريكية في دول الخليج العربية والعراق وسورية. يرابض الأسطول الخامس الأمريكي في مياه الخليج منذ عقود، وبينما تتمترس حاملات الطائرات U S S Abraham Lincoln، غادرت حاملة الطائرات U.S.S. Harry S. Truman قاعدتها في نورفولك قبل أسبوع تقريبا لتنفيذ مناورات ”اعتيادية“ في شرق المتوسط. باختصار كل المصالح الأمريكية في المنطقة تعيد التموضع وتشحذ الجهوزية لتحقيق مستوى محسوب من الردع وحماية المصالح والجناح العسكري للولايات المتحدة في المنطقة – إسرائيل.
الحرب خُدعة
أما إيران، فبالفعل تتحسب من حرب مفتوحة مع إسرائيل تعلم جيدا هشاشة اقتصادها التجهيزي والعملياتي في أي حرب تقليدية تحت العقوبات. إيران تعلم كذلك أن نقاط الارتكاز الأمريكي في أنظمة الأردن ومصر ومحور التطبيع من الخليج إلى المغرب ستكون جميعها في صف إسرائيل والولايات المتحدة، مهما بدى من خلاف أو محاولة للإيحاء بنبض عروبي رسمي في الخطب والمناسبات في الجامعة العربية، مات وتحلل في سنوات استئساد إسرائيل على المنطقة. يعني ذلك أن النار تُنفث في هشيم الحُلم القديم للنيوليبراليين والساسة الأميركيين من المسيحيين الصهاينة منذ ريجان وحتى ج. دبليو بوش. ولأن إيران بين شقي الرحى بمعنى أن عليها الاختيار: إما التحسب والتحرك بمعطيات جديدة تُفرض عليها، أو المقامرة بملفها النووي وإثبات سطوتها على مابقي من قياداتها.
إسرائيل واحتراف المعادلات الصفرية
مجلة ميليتري واتش حللت الأدلة في قاعدة نيفاتيم الإسرائيلية وتعتقد أن صواريخ إيران دمرت طائرات F35 أمريكية الصنع فائقة الدقة بالقاعدة. لكن عملية واحدة لن تكفي، ولا اثنتين ولا ثلاثة. لابد من استراتيجية لحرب ممتدة ستتحقق أظن بالوكالة لا بالمواجهة المباشرة. إسرائيل تحترف سياسة حافة الهاوية والمعادلات الصفرية وتتحرك بشكل أفقي محسوب يكسبها أرضا وليس ضجيجا. إسرائيل تحاول تشكيل إسرائيل الكبرى بعد ما وقعت الأنظمة العربية على التطبيع علانية و في الخفاء. رد إيران المباشر جاء فجر الأربعاء بسماء محترقة لم نسمع ضجيجها تبعاتها بعد. بإطلاق دفقات صاروخية شبه مكثفة على بلدات وقرى في عمق دولة الاحتلال الإسرائيلية. بالتدقيق الصحفي وتتبع جهتي الإطلاق والاستهداف، وترتيب الدفقات في مجال زمني محدد للوقوف على كثافتها، وقراءة إحداثيات مجالها المنظور، نراها صوبت نحو أهداف تبدو غير عشوائية ومدروسة لتغطية أكبر مساحة من الأرض، وذلك عسكريا يتنافى مع اختيار الصواريخ سلاحا للرد في حد ذاته.
ما بعد اغتيال نصر الله
سبّب اغتيال نصر الله كسرا لطوق وهيبة حزب الله، كما قطع الشريان الرئيسي لأوصال التنظيم الأهم لإيران في المنطقة لأكثر من أربعين عاما، وتحسبا أكثر في دول أخرى لم تمد يد التطبيع لكنها أسست لوجودها العسكري ومستوى تسليح قواتها اعتمادًا على توازنات المنطقة العسكرية، الجزائر مثالا. يهز ذلك ارتكاز التوازنات العسكرية في الشرق الأوسط ويرسم لملامح جديدة بتوازنات مغايرة لكنها ليست مستحدثة كليا.
اغتيال السيد حسن نصر الله والعملية البرية الإسرائيلية المكللة بغطاء جوي مكثف من المقاتلات الأمريكية المزدوجة في طرازه الأحدث في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية رسالةٌ عل حكامنا أن يقرؤونها. الخطاب السياسي الإيراني خلال الأيام القادمة سيفرض قلب الحقيقة وليس مجرد الحديث عنها. إما هزيمة جديدة بتواطؤ إيران والأنظمة العربية، وإما نفخ الروح في نضال المقاومة الطويل لاحتلال إسرائيلي يمنع الغرب من تشكيل استعمار طويل.
ضربات ”تجميلية“
مصطلح مخيف أطلقه دونالد رامسفيلد وسماه اصطلاحا The Surge قبل أكثر من عشرين عاما في غزو العراق عام ٢٠٠٣ـ وما تلاها من تخبط وانعدام للتوازن حدى بالولايات المتحدة لسحب قواتها تدريجيا والاستعاضة عن الجيش العراقي بقوات الصحوات وبدء نفث النار في رماد الجهاد الراديكالي في المنطقة. لا يمكن قراءة الإعلان الأمريكي إلا بالتحسب لنقطتين: أولهما الإعلان جاء من جانب وزارة الدفاع وليس البيت الأبيض، والثانية السياق الأمني في محور فلسطين وسورية واليمن ”أنصار الله“ وحزب الله وإيران. أما عن الأولى فالولايات المتحدة لازالت تقتفي أثر الحروب اللاتقليدية التي أذنت بتغير وجه الحرب في الشرق الأوسط، من الحرب الشاملة إلى العمليات النوعية فائقة الدقة ، وإيكال العمليات في المناطق الخطرة إلى المرتزقة والشركات الأمنية. وأما الثانية فإيران تبدو معزولة ومتهمة أكثر من أي وقت مضى على الرغم من إنارة سماء إسرائيل بعد مسافة زمنية طويلة نسبيا وحذرة جدا من تنفيذ عمليات البيدجر واغتيال نصر الله بهذه الدقة، بل وتجريف واستهداف القيادات العملياتيين في فلسطين ولبنان وسورية واليمن دفعة واحدة وبلا توقف.
التركيز على تعزيز المدد العسكري لنقاط الارتكاز العملياتي الأمريكي في المنطقة، يأتي بعد بدء تنفيذ إسرائيل اجتياحات برية وجيزة ومحسوبة في جنوب لبنان بوحدات الكوماندوز بغطاء جوي، فضلا عن عمليات متزامنة وعالية الدقة في الحديدة اليمنية لينضم اليمن إلى مستهدفات الجيش الإسرائيلي بعد غزة والضفة الغربية المحتلة، وسورية والعراق في آن معا بإحداثيات تبدو دقيقة ومحسوبة لباقي قواعد حزب الله وأنفاقه وبناه التحتية بالقرب من الحدود اللبنانية السورية.
الواقع الذي ترسمه إسرائيل والولايات المتحدة أمام قوة غير مسبوقة للمقاومة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك من حزب الله وجماعة أنصار الله الحوثية وفي العالم بأشكال الحروب والموجات الحقوقية، لا يمكن لدول الخليج معه إلا الانتظار والترقب، فالمقامرة صعبة والحسابات تطول. الأيام القادمة كاشفة وشديدة الكثافة. فلننظر ونترقب بحذر.