سياسة
بعد أشهر من التوترات المستمرة، تحولت المواجهة بين إسرائيل وحزب الله إلى مرحلة حاسمة بأحداث تبدو كأنها مقتطفة من فيلم خيال علمي: تنفجر آلاف أجهزة الاستدعاء في جميع أنحاء لبنان بشكل متزامن، ما يسبب حالة من الفوضى العارمة والرعب بين السكان. فلم يقتل التفجير المقاتلين فحسب، بل أيضًا الأبرياء، بمن فيهم الأطفال. الصدمة النفسية عميقة، والتأثيرات المدمرة واسعة النطاق. ومن الواضح أن مثل هذه العملية المعقدة والجريئة قد تطلبت سنوات من التخطيط والاستعداد. تظهر المعلومات المستجدة أن إسرائيل قد اختارت هذا التوقيت بعناية لتنفيذ هجومها، مما يؤكد استعدادها لحرب شاملة بما فيها مواجهة شبكات الحزب في أماكنٍ بعيدة، كأفريقيا مثلاً.
إضافيًا، وفي تطور دراماتيكي وحاسم، شهد السابع والعشرين من سبتمبر لعام 2024، غارة جوية إسرائيلية لقي فيها زعيم حزب الله، حسن نصر الله مصرعه. هذه الحادثة مثلت تحولاً جذرياً في مجريات الصراع الطويل بين حزب الله وإسرائيل، حيث كان نصر الله العقل المدبر للعديد من العمليات التي نفذها الحزب ضد إسرائيل. ومع حلول الأول من أكتوبر، استهلت القوات الإسرائيلية توغلًا بريًا مكثفًا في جنوب لبنان، في خطوة تصعيدية تعكس توجهها نحو دحر حزب الله وتحجيم قدراته. ويواجه هذا الهجوم مقاومة شرسة من قوات حزب الله، وسط تقارير عن اشتباكات عنيفة واستمرار الغارات الجوية الإسرائيلية. تؤكد إسرائيل على أن هدفها الأساسي هو إبطال مفعول تهديدات حزب الله وليس المواطنين اللبنانيين، مشددة على أن هذه المعركة ضد الحزب فقط. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الجيوبوليتيك يكشف أن أهداف الحروب قد تتبدل وكذلك خططها. فالحقائق التي نواجهها لا ينبئ بأقل من تصاعد لحرب شاملة بين إسرائيل وحزب الله، قد تقود إلى غزو محتمل ومحاولة الكيان احتلال لبنان، فالدوافع الإسرائيلية تشي بذلك.
إذ يدرك كل ملم بالشرق الأوسط وسياسات إسرائيل أن ثمة توافق استراتيجي بين صفوف خبرائه يكاد يكون إجماعًا مطلقًا عندما يتعلق الأمر بحتمية الصراع مع حزب الله، وهو استنتاج رسخته تجربة الأحداث التي تلت حرب 2006. ويُشير التوافق إلى أن، إذا كانت المعركة مع حزب الله لا مفر منها، فإن الظروف الراهنة توفر أكثر اللحظات ملاءمة لبدء الأعمال القتالية، مما يسمح لإسرائيل باستغلال الفرصة لتعزيز مكانتها الاستراتيجية بشكل دائم وتحقيق مكاسب جوهرية تعود بالنفع على أمنها القومي في المدى الطويل.
ففي المنظور الاستراتيجي البحت، يبدو الوقت الراهن مؤاتيا. الولايات المتحدة، التي تعيش فراغًا قياديًا ملموسًا عقب تنحي بايدن وعدم تولي ترامب أو هاريس لمنصب الرئاسة بعد، تبدو كأنها خارج المعادلة الفاعلة مؤقتًا. وفي الطرف الآخر، تعاني إيران من تقلبات داخلية حادة، أبرزها وفاة رئيسها إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة، مما أدى إلى تسلم مسعود بزشكيان السلطة مع أجندة سياسية ترمي إلى التفاوض لرفع العقوبات الدولية عن بلاده. وتدرك إسرائيل أن رغبة بزشكيان في التوصل إلى تفاهمات مع الغرب، تجعل الخيارات العسكرية المتاحة لإيران محدودة، وهذا يضع قيودًا كبيرة على حلفائها، حزب الله، تماما كما اتضح ذك مع حماس، مما يتيح لإسرائيل فرصة ذهبية. فمع تراجع الدعم الإقليمي لحزب الله، يمكن توجيه ضربة قاطعة ضد النفوذ الإيراني في لبنان دون خشية من رد فعل إقليمي واسع النطاق. كما أن إضعاف حزب الله – أو القضاء عليه- تتلاقى مع رغبات قوى إقليمية أخرى في الخليج، خصوصًا المملكة العربية السعودية التي تسعى هي الأخرى لمنازعة النفوذ الإيراني في كل من لبنان واليمن.
لكن ما علاقة جميع ذلك بأنشطة حزب الله في أفريقيا؟
تعتبر عمليات حزب الله في إفريقيا، خاصة في غربها، جزءًا من استراتيجيته الواسعة التي تهدف إلى تعزيز نفوذه المالي والعسكري عبر القارة لتعزيز قدراتها في منطقة الشرق الأوسط. ويعود وجود حزب الله في أفريقيا إلى عقود ماضية، مستفيدًا من الروابط القوية التي تربطه بالجالية اللبنانية الشيعية المنتشرة في أنحاء القارة في ثمانينات القرن العشرين.هذه الجاليات، التي تنتمي غالبًا إلى الطائفة الشيعية، شكلت أساسًا لشبكة معقدة من العمليات الاقتصادية والقانونية وغير القانونية، التي استخدمها حزب الله لتحقيق مكاسب مالية ضخمة، ساهمت في تمويل عملياته العسكرية في الشرق الأوسط.
بحلول عام 2013، استهدفت الولايات المتحدة وحلفاؤها عمليات تمويل حزب الله في غرب أفريقيا، حيث أشارت تقارير إلى أن هذه العمليات كانت تتركز في دول مثل السنغال، سيراليون، ساحل العاج، وغانا. وقد استفاد حزب الله من العلاقات التجارية التي يديرها أفراد من المجتمعات الشيعية في هذه الدول لتمويل نشاطاته. وارتبطت هذه الأنشطة بشكل وثيق بغسيل الأموال وتهريب السلع غير القانونية، مما أتاح للحزب تحويل الأموال إلى لبنان لدعم عملياته العسكرية.
لا يقتصر تأثير حزب الله في غرب أفريقيا على الجانب الاقتصادي فحسب، -فعطفًا على ما سبق- يمتد تأثيره إلى الدعم العسكري الذي يوفره لبعض الجماعات الشيعية. تشير تقارير للحكومة الفدرالية النيجيرية إلى أن الحزب يقدم تدريبًا عسكريًا ودعمًا لوجستيًا لجماعات شيعية، خاصة في نيجيريا مما أدى إلى إنشاء ميليشيا عسكرية للحزب داخل نيجيريا تابعة لرجل الدين الشيعي إبراهيم زكزاكي، تضم الآلاف من الشباب والفتيات. هذه العمليات تشمل التمرين العسكري والتدريب على التهريب والاتجار بالأسلحة عبر الحدود الهشة لدول غرب أفريقيا، ما يعزز حضور حزب الله في المنطقة ويوسع من نطاق تأثيره العسكري.
وفي هذا السياق، تعتبر نيجيريا مركزًا رئيسيًا لنشاطات حزب الله، حيث تم الكشف في عام 2013 عن خلية تابعة للحزب كانت تعمل داخل البلاد وتتعارك مع القوات المسلحة النيجيرية في أحايين عديدة. وقد أُلقي القبض على عدد من أفرادها، وضُبطت كميات من الأسلحة التي كان يُعتقد أنها موجهة لدعم عمليات حزب الله في المنطقة. كما أظهرت تقارير وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2016 أن حزب الله يسعى بنشاط لتوسيع وجوده في أفريقيا، بهدف استخدام القارة كقاعدة لغسيل الأموال والألماس وتهريب الأسلحة، بل أحيانًا الاتجار بالمخدرات، وتمويل عملياته من خلال سيطرته على الأنشطة التجارية للجاليات الشيعية. ومثل هذه الشبكات تعد محورية في تأمين الموارد المالية التي تُستخدم في دعم طموحات حزب الله العسكرية والسياسية. وإلى جانب ذلك، يعتمد الحزب بشكل كبير على الاتجار بالأسلحة، حيث يستخدم موانئ غرب وشرق أفريقيا لنقل الأسلحة إلى لبنان أو لبيعها لجماعات مسلحة أخرى.
أما على الصعيد الاجتماعي والديني، فقد عمل حزب الله على تعزيز تأثيره داخل المجتمعات الشيعية من خلال الخدمات الدينية والاجتماعية كالجامعات ومؤسسات الغدير عبر شبكته التي أطلق عليها “سفراء دائرة العلاقات الخارجية لحزب الله”. هذه الأنشطة تساهم في تجنيد المتعاطفين وجذب الممولين، مما يجعل المجتمعات الشيعية المحلية في دول مثل نيجيريا وسيراليون وساحل العاج وغانا جزءًا من شبكة دعم أيديولوجية ومالية لحزب الله. ومن خلال هذه الأنشطة، يواصل حزب الله تعزيز نفوذه في المنطقة، مما يضع تحديات أمام الدول الغربية التي تسعى لكبح جماح تمويلاته المتدفقة من أفريقيا.
من الجدير بالذكر أن هذه العمليات قد دفعت الولايات المتحدة وحلفاءها إلى تكثيف حملاتهم ضد شبكات حزب الله المالية في أفريقيا، حيث تم فرض عقوبات على العديد من الأفراد والشركات المرتبطة بالحزب. وقد كان لهذه الحملات أثر كبير في تقليص قدرات الحزب على تمويل عملياته العسكرية عبر القارة.
وفي ضوء اندلاع الحرب بين حزب الله وإسرائيل، واستنادًا إلى طريقة عمل الفاعلين من غير الدول، يمكن تحليل كيفية انعكاس الحرب على شبكة الحزب في أفريقيا على النحو التالي:
دعم مالي مستدام: شبكة حزب الله المالية في أفريقيا، التي تعتمد على التجارة المشروعة وغير المشروعة، مثل غسيل الأموال وتهريب الماس، تعد عنصرًا حاسمًا لتأمين الموارد المالية اللازمة للحزب. إذا استمرت الحرب لفترة طويلة، فإن هذه الموارد ستكون محورية للحفاظ على قدراته العسكرية واستمراريته في مواجهة الضغوط الإسرائيلية. حتى في حال اندلاع حرب قصيرة الأمد، يمكن أن يتم استخدام هذه الأموال بسرعة لشراء الأسلحة والعتاد عبر الأسواق غير القانونية، لا سيما في مناطق غرب أفريقيا التي تتيح لحزب الله إمكانيات التهريب
الخاتمة: في تتمة هذه المقاربة، حري بالذكر، أن النظرة الأفريقية لحزب الله ليست موحدة. فبينما يرى فريق من الرأي العام وبعض الأكاديميين الحزب كجهة مقاومة نشأت من واقع الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت بفعل الغرب والأطماع الصهيونية الإمبريالية، ويقفون إلى جانبه كما يقفون إلى جانب المقاومة الفلسطينية. وهم مستعدون لتجاوز ممارساته في تجارة المخدرات وغسيل الأموال، باعتبارها ضرورات تكتيكية للحفاظ على مقاومته في ظل قيود ومراقبة النظام الاقتصادي الدولي الأمريكي، مقارنين ذلك بسياسات التمويل الأمريكية لبعض حروبها عبر أموال المخدرات التي تحتجزها إدارة مكافحة المخدرات. ففي المقابل، يرى فريق آخر الحزب كميليشيا إجرامية تقوم بدعم أنشطة إرهابية وجماعات طائفية تسعى لإضعاف الدول والحكومات الأفريقية، وهذا هو الرأي السائد في دول كنيجيريا، حيث يُنظر للحزب على أنه مجرد أداة لزعزعة استقرار المنطقة، ويتم وصفه بمفردات القوى الغربية ذاتها.
لكن مهما يكن، سواء كانت الحرب قصيرة الأمد أو طويلة الأمد، فإن شبكة حزب الله في أفريقيا تشكل ركيزة مهمة في استراتيجيته لمواجهة إسرائيل. ففي حرب طويلة، يمكن أن تكون هذه الشبكات عنصرًا استراتيجيًا لاستدامة العمليات العسكرية، تقويض المصالح الإسرائيلية في إفريقيا، وتحقيق دعم دبلوماسي وشعبي عبر القارة. أما عن إسرائيل، فكما أن مساعيها لتصعيد الصراع الحالي مع جزب الله أمرًا يصب في صميم مصلحتها القومية كما فسرناه سابقًا، فإنه وعلى نحو يكاد يكون بديهيًا، لا شك أنها ستسعى -وحلفائها- لإضعاف شبكات الحزب أفريقيًا أيضًا.