مدونات
الكاتبة: شيماء يوسف الحلو
انظروا إلى صورتي عند الاشتياق.. هذه كانت آخر كلمة قالها والدي قبل خبر انقطاع الإرسال على أهل شمالنا، ضحكة مرتجفة من أثر الدموع صدرت مني وأنا أنظر لصورته أتقلب بذكريات الهاتف بين صورته وصورة أختي الجميلة وأولادها الصغار لقد مَرَّ أسبوع دون معرفة خبر عنهم دون سماع صوتهم وضحكاتهم الرنانة!
احتضنتُ هاتفي ونمت ككُل ليلة وأنا أُحصنهم باسم البارئ الخالق كنتُ أتحرك بقلق متشوقة لبزوغ الشمس من أجل التوجه ككل يوم الى محل الإنترنت، اعتقدت أنني أذهب لهناك من أجل الاطمئنان لكنه كان اطمئنان مليء بالخوف والإرهاق كنت أتقدم خطوة وأعود خطوات للوراء لكن فضولي لمعرفة أخبارهم كانت أكبر من أي قلق آخر.
اشتريت بطاقة الإنترنت ووضعتها بهاتفي وبأيدي مرتعشة بحثت عن المربعات التي تم قصفها هناك تابعت أسماء الأماكن والعائلات بتمعن، وضعتُ يدي على قلبي وأنا أحمد الله وأشكره أن والدي وأختي ما زالوا بخير، لقد كان القصف بكل اتجاه حولهم الكثير من الدبابات تحاصرهم لقد كنت أعلم أنهم يتألمون، وأعلم أيضاً أنهم لا ينامون من شدة القصف والدمار أعلم أنهم بحاجة لسماع صوت والدتي التي تبثُ الأمان لقلوبهم لكن الذي لم أكن أعلمه أنني بعالم متخاذل، بعالم مليء بالقسوة!
ابتلعتُ غصة حلقي وأنا أقرأ الوضع الجنوني الذي حل هناك أغلقت هاتفي وعدت إلى مكان الإيواء الذي كنت أقطن به في ذلك الحين وصلت وقبلتُ والدتي أخبرتها الكذبة المعتادة أن كل شيء هناك بخير لا داعي للقلق أختي ووالدي بأفضل خير أيضاً، انقضى اليوم كغيره من الأيام أصبحت الأيام باهتة متكررة، ملامحنا باتت مرهقة ومتعبة، عقولنا مشوشة أصبحت تراودنا الكثير من الأفكار المؤلمة لقد كنا نعيش بصراع داخلي كبير وكنت أشعر أننا نموت بشكل بطيء جداً كنت أردد بداخلي (من منا سيبقى على قيد الحياة هل سنروي الحكاية أم أننا سنصبح الحكاية، هل سيجتمع شمل عائلتنا ونجتمع بحضن كبير يعوضنا عن هذا الفراق المؤلم!) أصبح الحزن حليف أيامنا إلا أن جاء ذلك اليوم الذي عاد به الإرسال وعادت معه أرواحنا المضطربة.
استيقظنا من الفجر كأننا بمسابقة لمحاولة الفوز بسماع صوت من نحبهم بالشمال، دقات قلب متسارعة صدرت مني عندما ضغطتُ على زر الاتصال نظرت بعيون دامعة لجميع من كان بمكان الإيواء أنهم مستيقظون اليوم بابتسامة مشرقة كأن الفرح خُلق لقلوبنا نحن فقط! لقد كانوا ينتظرون سماع المكالمة كما كنت أنتظر! (ألوو كل يوم كنت أقول هل من المعقول أن أموت دون سماع صوت عائلتي كنت خائفة من حدوث ذلك!) هذه أول كلمة سمعتها من أختي عند محادثتها أول مرة بعد انقطاع شهر كامل، صَمتُ قليلاً لأنني كنت أود أن أخبرها نفس الكلمة التي اعتبرت أنها أكثر كلمة مؤثرة تَمرُ على مسامعي.
تحدثنا كثيراً كأنني كنت خائفة من فقدان سماع صوتها مرة أخرى، لقد أخبرتنا عن هروبها من الموت مئات المرات وكم من مرة ركضت هي وأطفالها فوق الجثث والقناص خلفهم وكم أنها كانت بحاجتنا وقت إصابة أطفالها بصاروخين لكنهم بلطف الله تمت نجاتهم.
حدثتنا أيضاً أنها قابلت الكثير من القلوب الرحيمة الذين قاموا بمد يد العون لها وكم أن الله كان رحيما بهم، أدركتُ وقتها أن خوفهم كان كبيرا لكن رحمة الله كانت أكبر من أي خوف لقد كانت رحمة الله تحتضنهم كل وقت…
كان ختام المكالمة سماع صوت أطفالها المليء بالشوق لنا أخبرناهم أن الوقت سيمضي سريعاً وسنلتقي قريباً دعونا نحتضن بعضنا بالدعاء لوقت اللقاء، كانت أكثر محادثة سعيدة بيننا الهاتف يقفز من يد إلى أخرى وكأنه يشاركنا السعادة والجميع متواجد حولنا ينصتون الى محادثتنا بكل حب نظرت لضحكاتهم البريئة ورددتُ بداخلي كيف لاتصال بريء أن يطفئ نار قلوبنا! كيف لاتصال بريء أن يكمل سعادة العائلات بغزة، إذا كانت هذه السعادة من أجل مكالمة اطمئنان فكيف ستكون سعادة اللقاء؟ متى سيكون اللقاء المنتظر متى سنبكي قهر أحزاننا بأحضان من نحب؟ كيف ومتى سنجتمع؟ متى سنعيش سعادة مُتوجةٌ بالنصر؟ فالسعادات هنا لا تكتمل والقهر متتالي. نحتاج أن يطبطب أحدهم على قلوبنا بدعوة صادقة لكن لا أحد بهذا العالم يواسي قلوبنا المرهقة لكن مواساة الله لنا دائمة ومكتملة، مواساة مُتوجةٌ بكلمات الصبر الجميل عزاؤنا وعزاء شعبنا الوحيد هو قوله تعالى: “واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا”.