مدونات
الكاتبة: تسنيم المسحال
إنّه السابع من شهرِ سبتمبر، وهذا يعني أنّه قد مَرَّ على غيابك شهران كاملين يا إبراهيم، وبالرغم من مرور كلِّ تلكَ الأيام، إلاّ أنّني لا زلتُ أراك في كلِّ شيء. أخرجُ إلى الشارع فأرى قدميكَ الطاهرتين كلّما نظرتُ أحداً يمشي حافيَ القدمين على الرمال الحارقة. فصورتُك التي رسمتُها في مخيّلتي وأنت ذاهبٌ في رحلتكَ الأخيرة لكسب رزقك عاريَ القدمين وحاملاً شبكة الصيد التي صنعَتها يداك لا تبرحُ تفكيري. لم أعلم يقيناً لم كنتَ حافيَ القدمين حين استُشهدت على بحر غزة، ولكنّ نعليكَ المُهترئين حدّثاني بالقصة كاملة.
وغالبُ الظنِّ يا حبيبي أنّك آثرتَ الخروج حافياً على ارتدائهما خشيةَ أن تُصبحَ بسببهما لقمةً سائغةً للصهاينةِ الأنذال، وأنّك آثرتَ تحمُّل حرارةِ الرمال الحارقة، كي تتمكنّن من الفِرار بسرعة البرق إن لاحظتَ دبّاباتهم الغادرة تلوحُ في الأُفق، لتعودَ بأمانٍ لأبنائك الصغار، ولأًمِّكَ التي وعدتها في الليلةِ السابقة وأنتَ واضعٌ رأسكَ الطاهر في حِجرها الطاهر بأنّك لن تعودَ للصيد مرةً أخرى وأنّك لن تتركها وحدها، ولكن قدرَ الموتِ كان أسرع يا حبيبي، وها هو الرحيم يصطفيكَ في رحلتك الأخيرة لكسبِ الرزق، كما أخبرتَ ولدكَ الصغير حسن مُخاطباً إياه: “اليوم راح أروح آخر مرة أصيد يا بابا وحجيب السمكات تاكلوها انتو”، وحاشاه، هو الذي سقى سيدنا إسماعيل ماء زمزم في الصحراء القاحلة، أن يتركَ من تركتهم خلفك يا إبراهيم، فاذهب مقرورَ العينين إلى جواره يا أخي الحبيب.
وأمّا ما يُذكِّرُني بكَ أيضاً، فهيَ رؤوسُ الأطفال الشُقر التي أراها أينما مشت قدمايْ، والتي لم تظهر في بلادنا إلاّ عندما سكنَ الناسُ الخيام. وأمّا أنتَ يا إبراهيم، فلشدّة حبّ الشمس لك، كانت دائماً ما تطبعُ على شعركَ الجميل خُصلاً شقراء، وأمّا السبب فغالبُ الأمر هو أنّك دائماً ما كنتَ تغبطُ أختنا الصغرى ريماس ذات الشعر الذهبي، حتى اعتدتَ أن تُناديها بدلال الأخ الأكبر لأخته الصغرى: “يا بسّة، تعطيني شعراتك الشُقُر وأعطيكي شعراتي؟”. والحق أنّ شعركَ يا إبراهيم كان أجمل وأبهى، وأنّ غُرّتك الجميلة التي كنتَ تضعُ عليها قليلاً “الجِل” لتظلّ ثابتةً بوقار كانت أجملَ بكثير.
وأمّا البياضُ في رؤوسِ الشيوخ، فهوَ يُذكِّرُني بكَ كذلك. لا شكَ أنّك تذكُر كيفَ ضحكتُ عليك حينَ نمَا ذقنُكَ لأوّلِ مرة، فاكتشفنا أنّ في جهته اليُمنى تقبعُ بقعةٌ من البياض، سببُها العلمي هو نقصُ صبغة الميلانين في بُصيلات الشعر، وأمّا السبب الذي أجزمُ بصحّته فهو؛ نُضجُك المُتقدِّم، ولا أعنى بذلك النُضج أنّك كنتَ حكيماً كشيخ، وإنّما أعني به أنّك كنتَ ناضجاً بما فيه الكفاية لتزهدَ بمتاعِ الدُنيا الزائلة وتشتري به ما عند الله.
لم يكُن إبراهيم كالجميع، ففي الوقت الذي كنتُ أستطيع فيه افتتاح كثير من الموضوعات في أي جلسةٍ لي مع أي شخص، كنتُ أعجزُ عن التحدث بأكثر من كلمتين أمامه. ليس لأنّني لا أُحبُّ مُجالسته، فلم يكُن هناك اجتماعٌ عائلي أقربُ إلى القلب من الاجتماع الذي يتوسّطُنا فيه إبراهيم، فلطالما اختتمتُ تلكَ المجالس بالتّوجُه بالحديث إلى أُمي قائلةً لها بابتسام: “مبسوطة يا إم إبراهيم، هي كل ولادك مجتمعين” فتُجيبني بصوتها العذبِ الرقيق: “الحمد لله”.
وأمّا سببُ عدم قدرتي على الحديث أمام إبراهيم بالكثير من المواضيع، فهوَ أنّه كان يكرهُ الحديثَ في سفاسفِ الأمور. فإن ذكرتُ سيرة فُلان أو فُلانة أمامه امتعض، وإن ذكرتُ سيرةَ الأثاث الذي يعرضه معرضَ فلان لم تّعجبه السيرة. وبالرغم من ذلك، إلاّ أنّه كان يُحبُّ مُجالستي بصمت، ولم أعهد أحداً يُناديني ” بإم مُنير” بصوتٍ أعذب مما كان يُناديني بها.
كان رقيقاً مُرهفاً يُحبُّ الصغار، ولكثرةِ ما كانت ابنتي الكبرى تُحبُّه، كانت تُناديه “خالو عصافير”. ولمَ لا، فهو الذي وبالرغم من حُبِّه الشديد لعصافيره الجميلة والغالية الثمن، كان يحملُ أجملها ويضعه بين يديها ليرى سعادتها، فسبحانَ من حبّبَ أرهفَ مخلوقاته بك، وسبحان من اصطفاك من بيننا، فإلى جنات النعيم المُلتقى يا إبراهيم.