سياسة
عاصمة حرة ومدينة عربية أخرى، ورمز للعروبة والحضارة والسيادة، تُدكُّ بأحدث ما لدى العدو من طائرات وقنابل، صواريخ تفتت الفولاذ، وتبخّر الأجسام، وتصنع سحابة كبرى من الغبار لا تنقشع ولو بعد انتهاء الحرب بعشرين سنة، غارات لا تترك أخضر ولا يابسا، وأصوات قصف تصم الآذان وتبصّر العميان، من هول ما يُرى من دون حُجُب؛ المصيبة كما ترى، والخبر ما جرى، عدوان إسرائيلي هائل على بلد في القلب من الأشقاء، ليس معزولا في جزيرة نائية، ولا محاصرا في قارة أخرى، ولا متروكا وحده في وسط المحيط، وإنما محيطه هو اثنتان وعشرون دولة تسد عين الشمس، بلسانها وعرقها ودينها وتاريخها وحاضرها الواحد، لا شيء مختلف إلا بعض التفاصيل من وحي التنوع وسنة الله في أرضه، وكل هذي “المكونات المشتركة” مجتمعةٌ على ألا تكون هنا، أنظمة تتجاهل الزلزال كأن الأرض ثابتة، وتنكر الطوفان كأن السيول سراب.
تعلن تل أبيب الحرب على لبنان، وتغتال أهم قياداته السياسية في آخر ثلاثين سنة، وتقتل قبله وبعده الآلاف من دون ورع ولا تذويق، تاركين الحدث يتحدث عن نفسه، ولا يكلفهم ذلك ولو اجتماعا واحدا يوجّه وسائل الدعاية الحربية بالتعامل مع الغضب العربي المستشيط، لأنه لا غضب عربيّ أصلا، لا بيان استنكار ولا شجب ولا إدانة، كل تلك “الورقيات” باتت رفاهية للمواطن العربي الذي ينتظر رد حكومته على قصف إخوته، والدول بلا حراك، ووزارات الخارجية مشغولة في شؤون أخرى، كعطلات صيفية وإن انتهى الصيف، وسبات شتوي وإن لم يأتِ الشتاء، ونوم طويل بلا يقظة، كأن كل العواصم استحالت “منامة” كبرى، تطبِّع مع العدو جهارا نهارا، ثم تغفو حين يقصف أشقاءها في الليل، ثم تصحو كأن شيئًا لم يكن، ممارسةً رذيلة التطبيع في الصباح مرة أخرى.
دماء اللبنانيين ترسم على الخريطة خطا لا تنكره عين ولا يجحده عقل ولا يجهله قلب، يتصل مباشرةً بدماء الفلسطينيين، يصمم الدم دولة خياليةً على خارطة الكوكب، بلا حدود ولا معابر، الكل فيها مواطن درجة أولى، ولا فضل بين هذا وذاك إلا بما بذل من دماء، يجري أثمن السوائل وأغلى الوسائل، في تحرير الأوطان، من سطحها إلى رحمها، ومن شمالها إلى جنوبها، مختلطًا بطين البلاد، ليبني مقبرةً كبرى مليئة بالورود، لكنها مليئة كذلك بوحشة الفقد والمفقودين، القبر قبر ولو زرعت حوله جنة، والسقيا دموع وماء مطر، والشمس لا تزور التربة، لأنها تخشى إن رأت وجوه الأقمار أن يختل ميزان الكون.
ومن حول تلك الخارطة الحزينة يظنون نفسهم في جنان حقا، لأنهم بعيدون عن النيران، الحكام يشعرون ببرودة المكيّف، والشعوب ملتهبة بنيران الشوارع، كأن موجات الغارات الحرارية لا تستثنيهم من سخونتها، فإنها تستهدف القلوب الصادقة المفتئدة حزنا على إخوتها ولو تباعدت الأجسام، لكن أصحاب الفخامة والسمو كما هم محاطون بأمنهم المزيف، وببساتينهم البلاستيكية، وبالصقيع الذي داخلهم أكثر من الخارج، معتقدين أنهم نجوا من المعادلة الحتمية، وكلما استيقظوا في الظهيرة تحسسوا وجوههم ليتأكدوا أنهم ما زالوا أحياءً لم ينلهم وعيد الله بعد، فتوهَّموا أنه لن يأتي، وأن أباهم الذي في ناطحات تل أبيب سيحميهم من الإله الذي فوق تل أبيب وكل تلة غيرها، والحقيقة ما سيرون لا ما سيسمعون.
وجرت العادة في هكذا أيام ثقال وليالٍ قاسيات أن يتخوف المرء من القادم، ويسلم أمره لله بأن سنته جارية جارية، وأن تلك الحلقة من الإجرام لن تزول حتى تكتمل، فتصيب الحرب العواصم بعد العواصم، وتنال القواصم بعد القواصم، وتسقط الحصون التي صدئت مدافعها، بعد القلاع التي أفنت في سبيله مدافعها، وسيكون سقوط تلك المستسلمة أشد دويًّا من التي قاومت حتى اهترأت، ثم ستكون من بعد ذلك عودتها، لكنني سألت نفسي اليوم هل سيأتي دور البقية حقا، بعد اجتياح غزة ولبنان، أم إن اجتياح غزة ولبنان جاء بعد اجتياح البقية؟
والحقيقة أننا لا ننتظر الاجتياح الإسرائيلي، ليس بحاجة لذلك عسكريا، عدا مجرد نزوات استعراضية يريد تحقيقها، لأنه اجتاحنا بالفعل، تلك القصور التي تمثّل سفارات إسرائيلية في أهم مواقعنا الاستراتيجية ببلادنا العربية، وهؤلاء السفراء الذين يتقلدون أعلى المناصب تحت مسميات ونياشين وأوسمة مثل ملك ورئيس وزعيم، وتلك الجيوش التي لا تطلق ولو طلقة في الهواء من دون إذن وزارة الحرب الإسرائيلية أولا، وتلك القرارات السيادية التي كان آخر ما خرج منها قبل عشرات السنين، وتلك الخطب الرنانة التي لم يعد يسمعها الشارع العربيّ إلا بعد بحث طويل في أرشيف القنوات وسجلات الذكريات، أليس كل ذلك اجتياحا؟ إلم يكن هذا هو الاحتلال في أوضح تعريفاته وحقائقه فكيف يكون؟
الاجتياح كذلك الذي تقوم به الأنظمة بالوكالة عن سادتها، تمص به دماء الشعوب، ليس شرطا أن تسيل تلك الدماء في غارات همجية كأنها الطريقة الوحيدة لسفكها، وإنما يكفي أن تراق في الطرق الخاطئة، وفي لقمة العيش الذليلة والذليل، وفي التخلي عن كل الثارات القديمة، وفي أن تغلي الدما وتفور لأجل أهلها وإخوتها فلا تجد سلاحا تذود به عنهم، ولا مؤونة ترسلها إليهم، فتموت بقهرها وكمدها، وتلك استشهادات لا تحصى في عدادات المجازر!
لولا اجتياح العواصم العربية المقهورة أولا لما جاء اجتياح غزة والقدس وبيروت، لولا اجتياحنا نحن أولا لما اجتاحوا بقية المدن، تلك كانت آخر القلاع وأكثر الحصون صمودا، فجاء احتلالها مدويًّا لأنها كانت عصية طويلا على السقوط، ولم تسقط، وإنما ذبحوها واقفة، وظلت واقفة رغم جرحها القاتل، تحاول تضميده بالمعجزات والخوارق!
القدس وغزة وبيروت ليسوا إلا آخر الاجتياحات، وتلك فاجعة وبشارة في آن واحد، الفاجعة أننا جميعا محتلون، فلو كانت أول الاجتياحات لانتظرنا عمرا طويلا آخر لاجتياح البقية ونعيش عصرا كاملا من الانكسار، وهنا تحديدا البشارة بأن من آخر الحصون ستكون أول الانتصارات، وستتحرر الأوطان المجتاحة كلها، وتنهزم “إسرائيل” وسفراؤها مصاصو الدماء في عواصمنا الجريحة، وتبرأ الشعوب المذبوحة، وتحرر غزة الخارطة كلها من الخطوط التي تطعنها في خواصرها، ويكون النصر في تلك المعركة نفسها، وليس بعد مدة طويلة، لا تسألني كيف ولا متى، وإنما ضع يدك على يدي، وبينهما المصحف، وأنا سأقسم لك، أن ذلك ما سنصبح عليه بعد قليل!