سياسة
في العلوم العسكرية وتأسيس معادلات الردع، يتباين اللاعبون العسكريون غير الحكوميين، بما في ذلك المتمردون والعصابات المسلحة والمرتزقة والقبليون المسلحون والميليشيات من حيث التعقيد أو القدرة على التحكم في قواعد الاشتباك حتى غير النظامية وفقا لأعراف الحروب التقليدية وأسسها. تفاوت تلك الفئات من حيث القوام، الفاعلية، القدرة على تأمين رافعة شعبية حيث تقاتل، وخلق أجنحة سياسية أو شبكات خدمة اجتماعية مرتبطة بها يؤسس للاستدامة، من ثم إما الردع أو الحفاظ على التوازن.
أما حالة حماس الفريدة، بالقانون الدولي وتأصيلات محكمة العدل الدولية تكمن في كونها حركة تحرر وطني، مكفول لها بشهادة العدل الدولية والقانون الإنساني والجنائي الدولي الدفاع عن النفس، واستخدام الوسائل كافة للتحرر من الاحتلال طال الزمن أو قصر على تأطير ذلك. الأمر الآخر المميز لفصائل عز الدين القسام، الذراع المسلح للحركة هو أن حماس ابنة الأرض، لا مرتزقة ولا قبلية. فمقاتلوها هي والفصائل الفلسطينية الأخرى بصرف النظر عن هوياتها الأيدولوجية فلسطينيو العرق والهوية، من ثم لا مجال لتحسب استراتيجي من صراعات عرقية أو مذهبية. فضلا عن كون حماس لاعبا سياسيا مارس الحكم واختُبر فيه بتفويض شرعي في انتخابات ٢٠٠٦، من ثم لها هيكل إداري ومكاتب رسمية و غير رسمية وقواعد عسكرية في أكثر من دولة وتمثيل سياسي يعتد به على أكثر من مستوى.
الوضع الحالي في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس من طرفي الصراع طال لأنه يسعى لتثبيت الأكتاف، عمليا لإعادة تأطير موازنات الردع بين حماس وإسرائيل. الولايات المتحدة، الدولة الراعية والمعنية عسكريا بتمكين أو تثبيت التفوق الإسرائيلي على الأرض قابلتها قوة مستبسلة من المقاومة الفلسطينية المسلحة في ضوء تخلٍّ واضح من داعميها التقليديين خصوصا في الجانب العربي. على ذلك تسعى حماس والفصائل المسلحة لا إلى أن تؤول لها اليد العليا العسكرية فقط؛ بل وتثبيت ميزان القوى على وضعية التفوق الفلسطيني المسلح للبناء عليه في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين.
حماس وإسرائيل ومعادلة الردع:
يكمن الفرق بين أي تصنيف آخر للميليشيات أو الفصائل المسلحة والفصائل الفلسطينية (على رأسها حماس) في عقيدة المقاومة الفلسطينية الأصيلة للتحرر الوطني، الذي يفرض تغييرًا في التكتيكات والسرد الإعلامي وتأطير الصورة، في حين أن ما يعرف بالسلاح الخاص أو المرتزقة مثلا يسعى فقط لتعبئة الموارد والتمويل وفقًا لنظرية تعبئة الموارد (RMT). حماس وغيرها من الحركات التحررية ذات الأجنحة المسلحة عادة ما يكون لها مشروع سياسي، ويتم استخدام العنف المشروع لتحقيق هدف الفصيل، ويتمثل هنا في حلم الاستقلال الوطني وإقامة الدولة الفلسطينية الحرة. من هذا المنطلق يتحتم على فصائل المقاومة أن تكون فائقة التسليح وصاحبة مشروع سياسي الاثنين في آن معا، لضمان الردع وتأمين التوازن. في سبيل ذلك عمليا هناك ثلاث طرق ستحاول بها إسرائيل المحتلة إعادة تغيير لوحة الشطرنج وقلب الميزان لزعزعة الردع الفلسطيني؛ إما التعايش، أو التوافق، أو المواجهة المستمرة سراً أو علناً. وبالطبع باستبعاد الخياران الأولان ستبقى حماس العقبة الكؤود أمام أي استقرار أو توازن يمكن إسرائيل من تحويل الاحتلال إلى استعمار.
كذلك سيطرة حماس على العنف تواجه بدورها المعضلة التي واجهتها منظمة التحرير الفلسطينية قبل عقود من الزمان مرورا بالتحول تدريجياً من العسكرية إلى السياسية إذا انتهت الحرب حتى بانتصارها. وتمثل هذه المعضلة صفرية المعادلة، فخسارة إسرائيل لجولة واحدة حتى تنهي نظرية ثباتها العسكري المرتبط شرطيا بالدعم الغربي خاصة الأمريكي، بينما خسارة حماس لهذه الحرب تحديدا، إما بالاستنزاف أو بتكبيدها خسائر كبرى لن تُفني مقاتليها لأنها صاحبة الأرض ويسهل استيلاد مقاتلين جدد.
إسرائيل تستميت بالتعبئة الهائلة وتغيير تكتيكات الحرب اعتمادا على الولايات المتحدة والتوافق الإيديولوجي لإسرائيل مع الثقل العملياتي الأميركي في المنطقة، لكن حماس هزت هذا الثقل بعمق، بل ودَفعت كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة إلى تغيير قواعد الاشتباك، لذلك تعتمد الولايات المتحدة على مد طرف الحبل لإسرائيل على طوله لتجريف حماس واستنزاف مواردها. إذا طال أمد هذه الحرب بما بعد العام الجديد، فسيتعين على حماس أن ترسم بعناية شديدة استراتيجياتها المحلية والإقليمية لضمان مواردها الأولية، وتسويق الخسارة الفادحة في الأرواح من المدنيين في حرب الإبادة الجماعية التي تتطرف فيها إسرائيل، لتحقيق هدفين: أ) إجلاء الرافعة الشعبية من شمال غزة للجنوب باتجاه الحدود المصرية لدحر الثقل الديمغرافي في المناطق التي تحتضن مقاتلي حماس. ب) تصدير الجزء الأكبر من سكان غزة إلى دول الجوار مثل مصر مرة واحدة وإلى الأبد.
تبنت حماس منذ بداء انتفاضتي الحجارة في عام ١٩٨٧ والأقصى في عام ٢٠٠٠ إلى المقاومة المسلحة المشروعة ضد إسرائيل كقوة احتلال. وقد منحت الرافعة الشعبية منذ ذلك الحين حتى في أقصى درجات الشكوى من ممارسات حماس كقوة مهيمنة على إدارة القطاع القدرة على التجنيد الناجح بين الشباب للانضمام إلى جهود المقاومة. مهد هذا النجاح الطريق لانتصارين تاريخيين لحماس: 1) الحصول على التمويل والدعم من الدول الراعية مثل سوريا وإيران ودول الخليج في وقت لاحق. 2) إضفاء الشرعية على الفصيل المسلح في العقل الجمعي الفلسطيني وتأطير منظمة التحرير الفلسطينية بوصم ”السلطة“ البيروقراطي، خاصة مع بدء طريق التنازلات بالقبول بالمسار الدبلوماسي مع المحتل (إسرائيل) و“الخضوع“ للهيمنة الأمريكية.
فخ التوازن بين المقاومة والدولة المحتلة:
في الأراضي الفلسطينية المحتلة، رعت إيران وسوريا الفصائل المسلحة لحماس في تسعينيات القرن العشرين كوكلاء عسكريين، على الرغم من أن أيديولوجية الحركة؛ كونها متأثرة بأدبيات جماعة الإخوان المسلمين لم تكن متوافقة مع الحكم شبه الاستبدادي في سورية أو الحكم الإسلامي الشيعي في إيران منذ عام ١٩٧٩. كان للمخطط الوطني والإسلامي الفلسطيني لحماس مشروعه السياسي وربما العسكري الخاص، ومع ذلك، فإن فصيل “مجد”، الذي شكله الشيخ أحمد ياسين، أحد القادة المؤثرين في الحركة في عام ١٩٨٥ ، كان الهدف منه التحرر من الاحتلال في نهاية المطاف في قطاع غزة وربما مناطق أخرى في الضفة الغربية، وإضعاف قبضة منظمة التحرير الفلسطينية على الحكم السياسي وأدوات العنف المقنن بيدها منفردة في الأراضي الفلسطينية. كان رد إسرائيل على تشكيل حماس لفصيل “مجد” هو الامتناع استراتيجيًا عن استخدام العنف القسري ضد الحركة أو ردعها في البداية. على العكس من ذلك، اعترفت إسرائيل تكتيكياً بالتعبئة الاجتماعية للإخوان المسلمين في غزة في أواخر عام ١٩٨٧ من خلال العديد من المشاريع الخيرية المسماة “المجمع”، على الرغم من أن إسرائيل أدركت أن هذه المشاريع والأعمال الخيرية تعمل على تجنيد عناصر شابة فيما اعتبرته ”ميليشيا“ حماس، على أمل موازنة قوة توازن منظمة التحرير الفلسطينية.
هذه الحرب على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول كونها حربا غير نظامية بين ”دولة“ ذات جيش نظامي (إسرائيل) وفصيل تحرير وطني (حماس وفصائل المقاومة)، فمن المستحيل تقريباً أن تتمكن الدولة المحتلة من تدمير حماس بالكامل باستخدام قوات عسكرية تقليدية لتحدث لا ”التوازن“ أو ”الردع“ أو أن حتى الاعتداد بانتصار مأمول لها في هذه الحرب مهما طالت. استحالة القضاء على عقيدة المقاومة في الضمير الجمعي للفلسطينيين تثبت عمليا استحالة القضاء على حماس أو غطائها المدني، فضلا عن الضمير العالمي الذي استيقظ مع حرب الإبادة والمتنامي تجاه فلسطين.
محاصرة حماس أو محاولة عزلها أو طرد الفلسطينيين إلى دولة جوار أو في أي مكان آخر في المنطقة سوف تفشل، وذلك ببساطة لأنها غير مستدامة. والبقاء في مواجهة محاولات الاستئصال التي تقوم بها إسرائيل هو معركة حياة أو موت بالنسبة للفلسطينيين سواء الفصائل أو المدنيين. قد تفوز إسرائيل بالحرب. ولكن بالنسبة لحماس والفلسطينيين المدنيين، فإن الصمود والاستبسال أمام الخسارة في مواجهة جيش تقليدي فائق التسليح غاية لذاتها. قد يتطلب من فصائل المقاومة البحث عن دعم إقليمي جديد، أو حتى حليف عسكري، من ثم التهديد الخارجي لقدرة إسرائيل القسرية وثباتها على تلك الأراضي المحتلة، وبالتالي ما تعتبره ”السيطرة“ أو الاستقرار. بينما تتفوق حماس آنيا وعلى البعد الاستراتيجي بمجرد البقاء والاستيلاد والوجود. معادلتا الردع والتوازن أبلت فيهما حماس وفصائل المقاومة بلاء فائقا يبدد الحلم الإسرائيل بالصمود عسكريا دون ترنح، أو الاستعمار دون مقاومة.