لم يكن مفاجئا التصعيد الإسرائيلي الأخير على لبنان فالنمر يزداد شراسة كلما ازداد ألما ونزفا. توسعت دائرة النار جنوبا وبقاعا في تدحرج سريع يرمي الاحتلال الإسرائيلي من ورائه إلى حصد مكاسب وإنجازات ليس أقلها شل قدرات حزب الله الصاروخية والعسكرية وممارسة ضغط على أهالي القرى والمناطق الحاضنة شعبيا له بعد أيام على تفجير أجهزة الاتصالات متبوعة بعملية اغتيال مدوية طالت عصبا أساسيا من قيادات الحزب وعناصره.
وفي حين تفوق المشهد الإنساني متصدرا الساعات الأولى مع ارتفاع عداد الشهداء معلنا عن سقوط المئات بين شهيد وجريح وتسجيل حركة نزوح كثيفة باتجاه العاصمة بيروت ومناطق أخرى، خرج نتنياهو منتشيا يوزع ابتساماته متوعدا بالمزيد، ومكررا سيناريو وعيده عند بدء حربه المجنونة على غزة فسطر لائحة شروط وأهداف تبدأ بتراجع عناصر المقاومة عن الحدود إلى جنوب منطقة الليطاني وإعادة مستوطني الشمال إلى بيوتهم وفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة.
يرى كثيرون أن نتنياهو، ومعه فريق كبير من السياسيين والعسكريين، أدركوا أن حرب غزة وصلت إلى حائط مسدود. لا فرصة عملانية لاستعادة الأسرى، ولا للقضاء الفعلي على حماس، فكان لا بد من تعديل لائحة الأهداف من خلال وضع ملف الشمال على الطاولة والخروج من مربع المواجهة التقليدي المستمر منذ الثامن من أكتوبر الماضي مع حزب الله، منتهزا خلو الساحة الداخلية من المعارضين لهذا الخيار، فحتى من كانوا يعارضون سياسته في غزة، كانوا يتهمونه بالتخاذل أمام حزب الله، ما سهّل له الصيد المزدوج: وقف النقاش بشأن غزة، وجعل هدف إعادة السكان سببا جديدا لمواصلة الحرب وإمطار لبنان بحمم نارية أكثر غزارة، مستفيدا من ضوء أمريكي أخضر وتواطؤ عربي لم يعد خافيا.
لكن ماذا عن الجانب الآخر من الحدود؟ وماذا في العقل الأمني والاستراتيجي لحزب الله وقيادته التي ما زالت تظهر تماسكا حتى اللحظة؟ وهل معادلة إجبار الخصم على التراجع عبر الضغط العسكري واقعية إلى هذا الحد في بلد خاض صولات وجولات مع عدوه، ومقاومة طورت ترسانتها وطالما أعلنت جهوزيتها الكاملة لخوض أي حرب تفرض عليها؟ قد لا تجري الرياح بما تشتهي سفن نتنياهو هذه المرة أيضا، وقد تذهب سكرة العنجهية واستعراض العضلات عندما تحل الفكرة، والفكرة هي ما يخبئ حزب الله في جعبته الميدانية و تدرجه هو الآخر بالتصعيد ودك المستوطنات الشمالية وصولا إلى حيفا بصواريخه التي لم يكشف بعد عن المزيد منها كما ونوعا، بل إن ورقة الاجتياح البري التي يلوح بها جنرالات الاحتلال ينتظرها حزب الله كما جاء على لسان أمينه العام بفارغ الصبر متوعدا بتحويلها إلى فرصة.
انطلاقا من هنا، يجمع قراء المشهد على أن رهانات نتنياهو والمقربين منه على كسر توازن المقاومة في لبنان وإحداث حالة من الترويع والصدمات في صفوفها العسكرية والقيادية وحتى الشعبية لن يجد صداه إطلاقا حتى وإن سالت الدماء وغارت الجراح، لأن التضحيات ثمن اعتاد الجنوبيون على دفعه مهما كان باهظا مقابل رد العدوان عن أرضهم وترابهم وأشجار زيتونهم، وأحلام نتنياهو لن تجد طريقها طالما أن استراتيجيته تنحصر في القتل ثم القتل واستعراض القوة والبحث عن نصر واهم لم يجده حتى الساعة في غزة وبالتالي من الصعب كثيرا أن يجده في لبنان. ولا يخفى عن بال أحد أن اللغة التي يعتمدها حزب الله حاليا في مخاطبة العدو والصديق، هي التأكيد على تماسك مفاصله الداخلية والحفاظ على مكامن الإدارة والسيطرة والجهوزية بل والتوعد بالكثير مما سيفرض على نتنياهو ولو بعد حين تقديم تفسيرات لجنوده وجنرالاته ومستوطنيه.
الحرب سجال، والدم النازف من غزة إلى لبنان مهما بلغ سيثمر نصرا لقضية حق خذلها عرب غائبون وعالم متفرج ودول عظمى تلعب على كل الحبال، أما حبل أكاذيب نتنياهو فقصير بانتظار أن يقع صريع حساباته ورهاناته الخاطئة!