آراء
لم تكن هذه أوّل المناوشات الكلاميّة/الافتراضيّة مع رفاق ورفيقات من سوريا أو لبنان حول مأزق الانحياز والتموضع في خضمّ معركة المقاومة ضدّ العدو الصهيوني تزامنًا مع الإبادة الحاصلة للأهل في فلسطين، ولبنان الآن، والحديث خاصّةً يدور حول جبهة الإسناد في لبنان واليمن على وجه التحديد بسبب ما ارتكبه الحزب والحوثي بتورّطهم المرعب في أوحال سوريا واليمن، وحتى لأدائهم بالداخل.
ولعلّ القاعدة التي تنطلق من عدم مناقشة الضحايا أصلاً، أكثر أمانًا ، وتجنّبنا الكثير من الحرج بين الموقف/الفكرة، والشعور/العاطفة، لكنّ الأيسر ليس دائمًا أفضل أو أصحّ، إذ يلزم أحيانًا أن نواجه وإن كان ذلك قاسيًا، وإن بدا-دون حقيقته- غير مبالٍ بالمأساة التي عاشها هؤلاء هنا أو هناك؛ لأنّ البناء بالتجاهل مساره الخداع ومصيره التهدّم حتمًا، خاصّةً وأنا أنطلقُ ابتداءًا من ثقةٍ على الجانبين من المواقف الأخلاقيّة والاعتقادات الإنسانيّة.
لا أنا ولا غيري يقدر على إدّعاء معرفة شعور الأهل في سوريا ولا اليمن ولا غيرهم، ولا “يحسّ بالنار إلا اللي كابشها”، على رأي المثل المصري، والجرائم التي ارتكبت بحقّهم يصعب وصفها بعيدًا عن أي تحليل للتورّط، والأمر محسومٌ تأسيسًا: مع الضحيّة ضدّ المجرم، كان من كان هذا أو ذاك، لكن والضحيّة هنا رفاق ورفيقات على درب الحريّة والتغيير، فالأمر يتجاوز التعاطف إلى الاصطفاف عملاً بشراكة الفكرة والحلم في معركة سوريا واليمن ولبنان كما في معركة مصر وتونس.
لكن في لحظة المواجهة مع العدوّ (الصهيوني حصرًا عند تعريفها بالألف واللام،هنا)، تتعقّد المواقف دون تبدّل، وتنزلق إلى اشتباكٍ لم نكن نحبّه ولا نرتاح له بالضرورة، لكنّه واقعٌ نتورّط فيه جميعًا (أقصد كلّ من يرى العدوّ عدوّه وجودًا، وينحاز للمقاومة الفكرة والحركة في هذه المعركة) دون أن نصيغه أو يُصاغ على ما نتمنى أو نؤمن كمثال، في هذه اللحظة لا يمكن السكوت على انتحال صياغات العدوّ الخطابيّة والمواقفيّة، تشفّيًا وغلًّا لا واعيًا، أو موقفًا واضحًا “عدوّ عدوّ صديقي” .
وبعيدًا عن الثانية :هذا التباسٌ يضعك في صفّ العدوّ ولو عن غير قصد، يصدمك بقناعاتك أنت واعتقاداتك أنت، التي تدّعيها بطول الرحلة، وهذا يلزمه أن تعيد النظر حتى لا تقع فيما يجعلك وقاتلك سواء، لكنّك لن تكتشف إلا بعد الاستوحال لحظة الاختبار (تلك التي هي الآن).
إذ كلّ ضربةٍ تطال العدوّ عليك أن تباركها-وفقًا لما تعتقده وتعلنه- ولو كانت من خصم، وإنكارها خبلٌ في موضعٍ لا يحتمل الخبال، كما كلّ ضربةٍ تقرّبه من الانتصار ولو معنويًّا، إضافة لأنّها جزء من جريمة إبادة، فهي خطوة تجاهك أيّها السوري واليمني، سواء تعيش على الأراضي اللبنانيّة أو داخل سوريا واليمن أو حتى في المهاجر والمنافي؛ فالوعي بحقيقة هذا الكيان ومشروعه، يضعك حتمًا في مقابل أي تصرّف منه، خاصّة لو رصاصة أو قذيفة، وانتصار مشروعه أو اقترابه من ذلك، في المعركة أو الصراع عمومًا، يعني فناء أي احتمال للتغيير أو الحريّة أو الثورة في المنطقة، ما يعني فناءك أنت ، كمشروع وربّما كشخص.
وبعيدًا عن ساحة المواجهة (التي لا يصحّ الابتعاد عنها)؛ لا أجرؤ أن أطالبك بالحزن عليهم ولا التعاطف معهم، ولا حتى ألا تخجلون من الشعور بالانتصار أو الشماتة أو التشفِّي، أيًّا كان شعوركم الآن على فعلٍ يقوم به العدو، ولا تحققونه أنتم ثأرًا؟ ألا يدعوكم هذا لمراجعة النفس ولو قليلاً؟ ألا تشعرون بالريبة لوجودكم في نفس صفّه، في لحظة كتلك؟
اكره الحزب أو غيره كما تشاء، وعادِه كما تشاء، وأعلن الحرب عليه حتى إن شئتَ في مواجهتك معه، لكن على أرض مواجهة شريفة، لا بيد العدوّ، ويحيلك إلى تناقض جوهريّ حين تنكرُ عليّ تعقيد موقفي: أدينه هنا وأنصره هنا ، باعتبار هذا تشوّش أو فقد للبوصلة، في نفس اللحظة التي تدّعي أنت فيها أنّك تحزن للضحايا المدنيين لكنّك تفرح في العسكريين، عليك أن تسمع نفسك هذا الكلام بصوتٍ عالٍ ربّما تدرك حجم تهالكه.
وأخيرًا: أخطر ما في هذا الموقف هو تماهي هؤلاء (المهزومين/الضحايا)، ولا أقولها معايرةً بل وصفًا، أصف به نفسي وجيلي مع الغالب، القويّ الباطش “وانتحال صفته”، وهو ما يعني تخلّيهم عن جوهر اعتقادهم، بذهنيّة هُزمت فانهزمت، وملأها وإن لم تعترف بعد ميلٌ للقوّة القادرة على الانتصار، ولو أوحلتها بالاصطفاف مع العدوّ في لحظة الإبادة بدعوى “التشفّي في مجرمين آخرين”.