مدونات
قد يستغرب القارئ من عنوان المقال، أستميحك عذراً سيدي القارئ أن تنحي الاستغراب جانباً، وننطلق إلى ما وراء العنوان، تصور لو أن خنفسة حقنت ببكتيريا وباء الجدري ألقيت على شواطئ سواحل البحار، إنها كفيلة بلا شك في نشر الوباء وتسبب هلعاً عالمياً لا طاقة للبشرية به، هذا للأسف ما تفكر به بعض العقول المريضة، لهزيمة الخصم مهما كانت العواقب.
يخبرنا تاريخ الحروب البيولوجية، تاريخاً مخيفاً و مفزعاً لا يمكن أن يشاهده المرء في أفلام الرعب أو حتى في أشد كوابيسه رعباً، فقد أُّرِخ أول استخدام فيما يسمى السلاح البيولوجي أو السلاح البكتيري، في القرن السادس قبل الميلاد، قام الآشوريون بتسميم آبار المياه التي يستقي منها أعداؤهم، مستخدمين فطراّ ساماً (مهمان الجودر) يصيب من يتناوله بالهلوسة، ويستخرج حالياً منه العقار المخدر ال اس دي.
كما يروي المؤرخون عن جيش السكيثيون، شعب بدوي ينحدر من أصول إيرانية، اعتاد جنود الجيش غمس سهامهم في جثث الجنود المتحللة قبل إطلاقها على العدو، وأحياناً كانوا يغمسونها في بركة من الدماء مخلوطة بالسماد العضوي، وفي العام ١٣٤٦ أثناء حصار التتار لمدينة كفا في شبه جزيرة القرم، أطلق التتار على المدينة جثثاً لأشخاص ماتوا بالطاعون، فاستسلم سكان المدينة وكانت النتيجة انتشار الطاعون في أوروبا وموت الملايين، رغم أن هناك عوامل ساعدت في توسع رقعة الوباء في القارة العجوز، منها قلة النظافة الشخصية، والطقوس المصاحبة لدفن الموتى، وانتشار القذارة في شوارع المدن الأوروبية إضافة إلى التغذية السيئة بسبب الفقر المدقع، والتجارة التي حملت معها أعداداً كبيرة من القوارض كالفئران والسناجب في السفن المحملة بالبضائع، وقلة الوعي حيث لجأ الأوروبيون إلى إعدام القطط، ظناً منهم أنها هي من جلبت الوباء، مما أدى إلى ازدياد شراسة الوباء وفتكه بالملايين من شعوب أوروبا.
إن تصور أن الحرب التقليدية ممكن أن تؤدي الغرض المتوخى منه وهو هزيمة الخصم لهو من السذاجة بمكان، بمقابل تطوير الخصم لأسلحة جديدة لا تخطر على بال. الفكر الحالي عن الحرب لم يعد محصوراً في حرب بين الجيوش النظامية فقط، بل تعدت إلى ما هو فوق التصور الطبيعي لتلك النوعية من الحروب، فإذا رغب المرء أن يعرف الكيفية التي سيحاربه بها العدو، عليه أن يتخيل حرباً بأساليب جديدة مختلفة ومبتكرة، ليس بالضرورة أن تكون حرب بالدبابات والطائرات والمسيرات وغيرها من الأسلحة المتطورة، بل أبعد من ذلك يستهدف المجتمع البشري المعني بالحرب، على سبيل المثال دس السم أو إطلاق الكائنات الدقيقة كالبكتيريا والفيروسات والجراثيم في مهاجمة صحة الإنسان، بتلك الطريقة يستطيع الطرف الآخر المهاجم أن يحقق هدفه بضربة قاضية، من غير خسارة رصاصة واحدة أو صاروخاً يكلف ملايين الدولارات، فالحرب البيولوجية بديلاً متفوقاً على القصف والغارات، فما تحققه الحرب البيولوجية أضعاف ما تحققه الأسلحة الحربية المتعارف عليها.
ففي عام ١٧٦٧ عاقب الإنجليز بعض قبائل من الهنود الحمر في أوهايو و بنسلفانيا في امريكا، عن طريق تزويدهم بملابس ملوثة بالجدري. وفي نفس السياق تناقل الرعيل الأول من الفلسطينيين الذين عايشوا الاستعمار الإنجليزي ودخول اليهود ونشأة دولتهم، تقديم مساعدات إنسانية كان من بينها مواد تنظيفية كالصابون، وزعت بين اللاجئين إلا أنه بعد استخدامها انتشر بينهم وأطفالهم القمل والصبان بشكل مخيف. وفي عام ١٩٤٠ أثناء الحرب العالمية الثانية، نشرت اليابان البكتيريا المسببة للطاعون في مدن صينية، بواسطة قنابل انشطارية كما استخدمت براغيث حاملة لمرض الطاعون، وبعده بعام أي في عام ١٩٤١، أجرت بريطانيا تجربة على مرض الجمرة الخبيثة في جزيرة غرونارد على ساحل اسكتلندا، ومازال يحظر الدخول إلى تلك الجزيرة حتى الآن بسبب تلوث تربتها ببكتيريا هذا الوباء.
لا جرم أن العجز في التصدي للحرب البيولوجية و نتائجها الكارثية على الحياة في كوكب الأرض، في بقية دول العالم، وخاصة الدول العربية والإسلامية مرده إلى الأمية المستشرية في البحث العلمي، وتقييد حرية البحث العلمي، والتراخي عن تشجيع الباحثين على البحث والتقصي العلمي، والعراقيل المادية والبيروقراطية التي يواجهها الباحث العربي، و نزيف العقول العربية والإسلامية المتميزة. فتخصيص جزء مهم من ميزانية الدول لأغراض البحث العلمي، كفيل للحد من المخاوف المتصاعدة من التهديدات الغامضة، والتي تخفي خلفها حرباً مرعبة قد تهدد بفناء البشر، فالتصدي لتلك التهديدات، يكمن في تخريج نخبة من الباحثين الأكفاء، وذلك لتزويد المنظومة العلمية بتلك الطاقات والقدرات والمهارات الفريدة خدمة لمجتمعها، والنهوض بمشاريع استراتيجية تطويرية، تساعد في بناء قاعدة معلوماتية بحثية محدثة، قادرة على مجاراة التطورات الحاصلة على البحث العلمي في جميع مجالاته، وانتفاء الاعتماد على نتائج بحثية مستوردة من الخارج.
إن الإنفاق الرسمي والخاص على مجالات البحث العلمي، يمكن أن يبني عليه حماية المجتمع العربي والإسلامي، لأي مستجدات قد تطرأ حاملة معها أخطار قد لا يحمد عقباها، تهدد الأمن والاستقرار والسلم الأهلي العربي والعالمي.
ثمة عوامل غاية في الأهمية تصب في مصلحة تطوير وتحسين البحث العلمي، تعتمد بشكل أساسي كما أسلفنا على الدعم الرسمي والخاص، وعلى تبني مشاريع بحثية ريادية تنهض بالمجال العسكري بشقيه الدفاعي والأمني، وعلى الشراكة الجادة والفاعلة بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص، وضرورة إيجاد منهجية علمية واضحة لأسس البحث العلمي وفروعه، وخلق جيل من الشباب ملم بطرق البحث العلمي الصحيح وأساليبه، وذلك بالاستفادة من الطاقات الشبابية وتوجيهها ناحية البحث العلمي وطرائقه، للارتقاء بمستوى البحث العلمي وخدماته، عدا تسخير الموارد البشرية والمادية في الحقل العلمي وبحوثه، كي يستفيد منها الباحثون، وتهيئة الظروف لوضع بحوثهم موضع التنفيذ.
فالحرب الوحشية على قطاع غزة أماطت اللثام عن سلوكيات الجامعات العالمية في أوروبا وكندا وأمريكا وأستراليا ونيوزيلندا وغيرها من الدول، وذلك بتعاونها غير الأخلاقي مع مؤسسات عسكرية في “إسرائيل”، نتج عنه تطوير أسلحة وتصنيع أسلحة ومعدات قتالية جديدة أكثر قوة وفعالية وفتكاً بالروح البشرية.
وما هزيمة الأمة العربية والإسلامية وتراجعها عن مصاف الأمم القوية، إلا بسبب إخفاقها في ميدان البحث العلمي، وفقد مكانتها التنافسية العلمية العالمية، ووضع العراقيل أمام الباحثين. فالأحداث الجارية في منطقتنا العربية والهجمة المسعورة على أهلنا في غزة وفلسطين ولبنان، مؤشر خطير يوقظ لدينا حس معرفة كيفية توجيه بوصلتنا نحو أن نكون أمة منتجة لا مستهلكة، وخلق شبكة أمان بحثية قابلة للتطبيق، تضم مكتبة واسعة من البحوث العلمية المميزة، هذا ليس ببعيد فأمة أنجبت قامات من العلماء المسلمين في العصور الإسلامية المختلفة، وفي العصر الحديث كمصطفى مشرفة آينشتاين العرب، سميرة موسى كوري العرب، والزواوي ويحيى المشد وجمال حمدان وغيرهم الكثير، قادرة بالتأكيد على إنجاب المزيد من تلك الكفاءات.
حاجة الأمة العربية والإسلامية للنهوض بمستواها العلمي، و القيام بتوأمة بين الجامعات العربية والإسلامية، كفيل بأن يصبح البحث العلمي قادر على مواجهة التحديات الآنية والمستقبلية والاستشرافية، وإنشاء بنك من البحوث والدراسات العلمية في شتى المجالات.
خوله كامل الكردي.