تأملات
ما هي إلا دقائق معدودة حتى اشتعلت نار الإيمان في قلب سيدنا عمر رضي الله، فها هو يلتفت يميناً ويساراً وينظر في وجوه بعض الصحابة رضوان الله عليهم وإذ به يرى أثر وصنيع ما فعلته قريش بهم من تعذيب وتنكيل وتخويف، فاستجمع كل ما في داخله وقال لنبينا الأكرم عليه الصلاة والسلام قولته الشهيرة (أولسنا على الحق يا رسول الله) واستمر الحوار الشهير حتى انتهى الأمر بسيدنا عمر رضي الله عنه وهو يصلي أمام الكعبة وبدأت حينها الدعوة الجهرية، وعند الرجوع إلى تلك اللحظات الفارقة في تاريخ الأمة الإسلامية وأعني اسلام الفاروق رضي الله أجد ذلك التدافع بين الحق والباطل جلياً في ميادين مهمة لا تقل أهمية عن ميادين القتال والجهاد بالسنان.
يوم أن أسلم الفاروق رضي الله كان العنوان البارز في لحظتها هو انتقال سنة التدافع نحو مرحلة أعلى وأكثر ضراوة، ففي بدايات الدعوة السرية قد أوذي النبي عليه الصلاة والسلام بشتى الطرق، ولعل الطريقة الأكثر قسوة هي تلك الحرب النفسية التي مورست ضد أتباع دعوة النبي عليه السلام من الصحابة، فالتعذيب الذي كان يتعرض له بعض أفراد الصحابة لم يكن الهدف منه الإيذاء الجسدي فقط، بل كان الهدف الأبعد يرمي إلى بيان ما سيحصل لك يا من تفكر بالدخول إلى الإسلام من تعذيب وتنكيل وتهجير ومصادرة للأملاك، فالتأثير على النفوس كان بالنسبة لقريش غاية وكل الوسائل في سبيل الوصول إليها مباحة، بل إن الأوصاف التي كانت تقال في حق ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام من قرآن وشريعة بأنها كهانة وسحر وجنون لم يكن المستهدف بها شخص النبي عليه السلام لأنهم يدركون قوة شخصيته ومدى التأييد الذي حصل عليه من ربه، بل كانوا يسعون لصد الناس عن الاقتناع والاتباع لتلك الأوصاف المنبوذة، ولفراسة النبي عليه الصلاة والسلام في خصال سيدنا عم ومدى تأثيرها في معركة إداد النفوس وتهيئتها وتثبيتها أمام قسوة العدو سأل ربه بأن يعز الدين به، فيوم أن أسلم الفاروق بدأت النفوس تترمم من جديد.
إن من يتذكر السادس من أكتوبر من العام الماضي سيتذكر كل شيء إلا فلسطين، فالنفوس كانت منهزمة، وأبواب بناء العلاقات مع الكيان الصهيوني مشرعة، ولا أحد يعلم عن عدد الشاحنات التي قد دخلت غزة بل لا يدري بالأساس إن كان أهل غزة في حصار منذ أكثر من عقد من الزمان، والحقيقة أننا فعلاً كنا قد نسينا الكثير مما كان يجب أن لا ينسى ولا يغفل عنه ولكن وكأن ذلك النسيان كان لحكمة ربانية لن ندركها إلا في صبيحة اليوم التالي، وحين دخل رجال الله على بن صهيون من الباب في السابع من أكتوبر فكأن الدنيا بأكملها قد امتلأت بالأنوار الكاشفة، وحالة الإلهام بأن نصر الله ووعده قريب كان يرى للجميع كالحقيقة الواضحة، فيومها بدأ العالم بأكمله يتذكر فلسطين، وبدأت الأسئلة تجد الأجوبة عليها دون عناء، وفي كل يوم يكبر الحلم وتقترب من التحقق الخيالات، ولكن سرعان ما حضرت سنة التدافع بين الباطل والحق من جديد، فبدأت تنتشر روايات عن أفعال شنيعة قام بها رجال الطوفان من اغتصاب وتصرفات وممارسات وانتهاكات وتعذيب للأسرى، وعوداً على بدء فإن الصهاينة وإعلامهم لم يقصدوا بتلك الافتراءات أن يثنوا من عزائم المقاومة ويدخلوا بين أفرادها الشك، بل كان المقصود هم الحواضن الشعبية حتى يحدث الشرخ وتضعف الثقة بين المقاومة والحاضنة، ولكن سرعان ما كانت معية الله حاضرة في أقوال وأفعال مقاومتنا أبقاها الله وأدامها حتى تبقى نفوس الحواضن قوية ومتينة، فقد كذبت القنوات الإعلامية روايات الاغتصاب، وخرج بعض الاسرى وعليهم علامات الرضا وتملأ وجوهم الابتسامات أمام عدسات الصحافة، وحينها بهت الذي كفر وخاب واندحر.
إن معركة طوفان الأقصى في حقيقتها هي معركة لإعادة تسكين المفاهيم والمبادئ من جديد في شخصية الفرد المسلم، وقد أدرك الأعداء كمية المكاسب التي تم تحقيقها في تلك المعركة على مستوى إعادة الروح في أمة كان قد حكم عليها بالموت، فحالة الإلهام لكل شعوب الأمة الإسلامية في نجاعة خيار المقاومة وتحقيقه للأهداف وكسبه للنقاط على حساب عدوه أصابت قوى الشر بالذعر من تحولها إلى برامج عمل مقاوم حقيقية، ومما لا شك فإن الكيان الصهيوني ومن يقف وراءه وبجانبه غير مستعدين لتوسع دائرة الحراك المقاوم والذي ينبني على أسس عقائدية، فحقيقة أن الأجيال التي عملوا على خرابها منذ عقود أصبحت لعبة في أيديهم قد تبعثرت مع أول خطاب من خطابات الناطق العسكري لكتائب القسام، بل إن خوارزميات منصاتهم الرقمية التي بنوها من أجل صرف شباب أمتنا عن قيمهم وقضاياهم العليا قد أصابها العطب ولم تعد قادرة على اللحاق بمناورات شبابنا معها، وحين ذلك تم اتخاذ القرار في غرفهم المظلمة والمليئة بكل الوحشية وفنون الإرهاب بالقضاء على المخزون النفسي الذي شكله الطوفان في أجيال الامة الإسلامية وحواضن المقاومة الشعبية، وقد كان القرار مدعوماً كالعادة بأن كل شيء مباح وكل دم مستباح.
لقد انطلقت الحرب المسعورة بارتكاب المجازر وقتل الأطفال وهدم البيوت وحرق الخيام بالنازحين وهم فيها ليس لكسر مقاومة أهل غزة، بل حتى تخاف الضفة الغربية وترتعد من هول ما تراه فتقرر الانزواء وترك التفكير في المقاومة، وحين بدأت اليمن باعتراض السفن في البحر الأحمر تمت الإغارة على بعض المدن والقرى فيها حتى يخاف ويتوقف من يفكر بأن يحتذي بحذو اليمن ويوسع نطاق المقاومة مع الكيان الصهيوني، ولكن مما لم يكن مدرك بشكل كامل لدى أجهزة استخبارات الكيان بأن حالة الإلهام قد بلغت مبلغاً كبيراً يصعب إطفاء جذوتها بتلك الوسائل المستخدمة رغم بشاعتها، فتم نقل المعركة النفسية إلى مستوى آخر وأعلى من خلال اغتيال قيادات المقاومة ورموزها حتى يعتقد الجميع أن الكل تحت بصرنا ومراقبتنا من ناحية، وحتى تشعر النفوس بالانهزامية والدخول في حالة التيه بسبب فقد القيادات، فقد تم اغتيال الشيخ صالح العاروري في لبنان واستمر الكيان بتلك الوسيلة حتى وصل إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنيه في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولكن هم أيضاً لم يدركوا ولن يدركوا أن هذه المعركة هي معركة الله في أرضه، وهو من يسيرها بحكمته، فأتى الله لهم بيحيى السنوار فقلب عليهم موازين خططهم وتدابيرهم وصفقاتهم ومفاوضاتهم، والحقيقية المدركة أن المقاومة قد وعت لهذه الحرب النفسية منذ عقود طويلة، فقد ترجل الشيخ أحمد ياسين ومن بعده ذهب الرنتيسي وحجر المقاومة يتفجر فتخرج منه أنهار القادة بفضل الله، ومن أحجارها ما يتشقق فيخرج منه الماء العذب الذي يسقي أمة الإسلام فيبقيها تشعر بالعزة والفخر والكرامة، ومن أحجارها ما يسقط على أعداء الله من الكيان الصهيوني ومن والاهم كالسجيل، فتلك الحجارة قد تجمعت على بعضها البعض فشكلت جبالاً ترتقي عليها نفوس أفراد الأمة في معركة الحق مع الباطل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.