سياسة
عشر سنوات كاملة وأسوار طروادة عصيّة على الاختراق؛ المدينة القوية التي لم تُكسر حصونها قط. وقفت طروادة أمام الإغريق في حصارهم للمدينة كما تقف دائمًا، عزيزةٌ بنفسها وبسورها الجبّار المذكور في ملحمة الإلياذة الشهيرة. إلى أن تفتَّق ذهن القائد الإغريقي أوديسيوس عن حيلة ماكرة، واستيقظ الطرواديون ولم يجدوا أثرًا للإغريقيين الذين كانوا يحاصرونهم، واعتقدوا أنهم انسحبوا.
ذهبت رُسُل طروادة تبحث عن الإغريقيين في كل اتجاه، وعثروا أخيرًا على أثر هائل.. حصان خشبي ضخم. ظن الطرواديون أنه تعبير من الإغريقيين عن إعجابهم بشجاعتهم وفروسيتهم، فذُهلوا لهدية الإغريق واصطحبوها بسعادة إلى داخل الأسوار في احتفالات بنجاة المدينة، وباعتراف أعدائها بعظمتها.
ولكن ما إن جاء الليل وخفتت الأنوار، خرج عشرات المقاتلين من داخل الحصان الأجوف، وفتحوا أبواب المدينة للجيش الإغريقي الذي كان مختبئًا في الخارج بانتظار هذه اللحظة. وما هي إلا دقائق حتى كان الجيش الإغريقي داخل المدينة. وكما يقال، أُخذ الطرواديون على حين غِرة وهم نيام، وصارت المدينة أثرًا بعد عين.
هجمات سلاسل التوريد
في العلوم العسكرية، عادة ما يشير مُصطلح (حصان طروادة – Trojan Horse) إلى عمليات التسلل للوحدات الخاصة خلف خطوط الأعداء. لاحقًا، توسع المصطلح ليشمل كذلك استخدام تكتيكات الخداع الاستراتيجي الواسعة؛ وربما أوضح مثال على ذلك هو عملية الخداع الاستراتيجي التي أُطلق عليها (الحارس الشخصي – Bodyguard Operation)، التي قام به الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لتضليل القوات الألمانية بشأن توقيت ومكان غزو الحلفاء لأوروبا قبيل إنزال نورماندي، في يونيو 1944، الذي غيَّر مسار الحرب وشكَّل العالم بالصورة التي نعيشها الآن.
لكن في السنوات الماضية، ومع تراجع حروب الدبابات والمواجهات المباشرة لصالح العمليات الخاصة وغير المُعلنة، تطور المصطلح مرة أخرى ليشمل (الهجمات السيبرانية – Cyber Warfare) و (هجمات سلاسل التوريد – Supply Chain Attacks) التي وقع حزب الله ضحية لها.
يشير مصطلح (Supply Chain Attack) إلى الهجمات التي تستهدف سلاسل إمداد السلاح أو المنظومات العسكرية الخاصة بدولة أو منظمة ما، بهدف اختراق أنظمتها، من خلال البحث عن أضعف نقطة في سلسلة الاستيراد واستغلالها، قد تكون نقطة الضعف تلك مُورِّد أو مزوِّد خدمة كطرف ثالث، وتستلزم العملية اختراقًا لكامل سلسلة التوريد للبحث المتقن عن نقطة الضعف، والتفكير في كيفية استغلالها بأفضل شكل لتدميرها.
لتقريب الصورة، تخيل معي أنك تمتلك متجرًا لبيع أجهزة التلفاز. حاول أحدهم تخريب سُمعتك في السوق، ووجد أن أفضل طريقة لذلك هي البحث عن شركة الاستيراد التي تتعامل معها، وبعد العثور عليها، تسلل إلى مخزن الشركة وقام بقطع سلك داخلي صغير في جميع أجهزة التلفاز التي من المفترض أن تصلك وتقوم ببيعها.
وبعد استلامك لأجهزة التلفاز، وقيامك ببيعها، اكتشف المشترون أن الأجهزة لا تعمل وطالبوك بتعويضات. فخَسِرت خسارة مادية فادحة، وتضرَّرَت سُمعتك في السوق.
عندما نتحدث عن هذا النوع من الهجمات بالنسبة للدول والمنظمات، تُصبح خطورتها أكبر وطريقة اكتشافها أصعب، لأن الطرف المُهاجم، مع معرفته بنقطة الضعف في سلسلة التوريد -المصنع وشركة الاستيراد في المثل بالأعلى- غالبًا ما سيكون مستعدًا لتجاوز تدابير الأمان التقليدية التي قد تقوم بها الدول والجماعات، مثل فحص الأجهزة والتأكد من سلامتها وتمريرها عبر أجهزة الكشف عن المتفجرات.
تلك النظرية طُبقت بحذافيرها يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين في لبنان.. ولكن كيف لإسرائيل أن تقوم بهذا الشَرَك الخداعي الناجح؟
حصان طروادة في الضاحية الجنوبية
الثلاثاء ١٧ سبتمبر ٢٠٢٤، في الثالثة والنصف عصرًا بالتوقيت المحلي لبيروت، وبينما يمتلئ الفضاء العام بالتهديدات الإسرائيلية بشنّ حرب واسعة على لبنان، بدأت أجهزة “البايجر” الحديثة لدى عناصر حزب الله في إطلاق عدة تنبيهات متتالية؛ كان هذا سببًا كافيًا ليهرع عناصر الحزب إلى أجهزتهم ليستطلعوا الرقم الذي يتصل بهم، وبعد ثوان من الطنين، انفجرت الأجهزة في وجوه من كانوا يحملونها.
يُقدَّر عدد الضحايا طبقًا لوزارة الصحة اللبنانية بـ ٣٠ شهيدًا، و٤ آلاف إصابة. كانت الخطة الإسرائيلية تحفيز الوضع العام لدفع مقاتلي الحزب إلى البقاء على مقربة من أجهزتهم، والتنبيهات كانت بغرض دفعهم لالتقاطها، والثواني ما بين التنبيه الأول والانفجار كانت لإعطاء وقت لالتقاط الجهاز لمن لم يكن على مقربة منه.
وفي الإجابة على سؤال كيف انفجرت هذه الأجهزة، خرجت نظريتان؛ الأولى متعلقة بنظرية التحميل الزائد على النظام ما يؤدي لانفجار البطارية، والثانية -وهي الأدق كما اتضح لاحقًا- كانت اختراق سلاسل الإمداد وتفخيخ الأجهزة.
سارعت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام لتتبع سلسلة إمداد “البايجر” الذي انفجر في يد عناصر حزب الله من خلال صور وموديل الأجهزة التي تم تداولها على نطاق واسع إلى جانب المصابين. وكانت التفاصيل التي تكشَّفت خلال الساعات التالية للهجوم مرعبة.
قالت نيويورك تايمز إن إسرائيل أدركت مبكرًا حاجة حزب الله لأجهزة الاستدعاء المعروفة بالـ “البايجر”، فعَمَدَت إلى إنشاء شركة وهمية تحت اسم B.A.C، واتخذت من المجر مقرًا لها. وتعاقدت الشركة الوهمية مع الشركة التايوانية الأم التي تُدعى “جولد أبولو” التي تُصَّنِع أجهزة البايجر.
شركة B.A.C نفذت عمليات بيع حقيقية إلى زبائن في الشرق الأوسط ودول أخرى على مر السنوات بهدف إقناع حزب الله بأنها شركة حقيقية، ولإضفاء المزيد من الموثوقية، أنشأ الموساد شركتين إضافيتين بهدف إخفاء الهوية الحقيقية لمُلَّاك الشركة الفعليين.
يتحدث تحقيق آخر عن أن الشركة باعت في البداية شحنات سليمة من “البايجر” لم يتم زراعة متفجرات بها للحزب، وبعد ذلك زُرعت المتفجرات في شحنات لاحقة.
من خلال عملية واسعة ومُعقدة كتلك، لا يكون الهدف الأثمن هو إصابة أو قتل أكبر عدد من المقاتلين، لكنه يعتمد على قطع الاتصال الداخلي وخلق حالة من الفوضى، وتشكيك المقاتل في أدواته التي يمتلكها. وربما يُعزز هذا نظرية أن الخطة الإسرائيلية كانت تنوي استخدام هذا السلاح السري كعملية افتتاحية لحرب شاملة، لكن طبقًا لتسريبات، فإنها اضطرت إلى تنفيذها على عجل دون استغلالها، لأن عددًا من مقاتلي الحزب شككوا في الأجهزة بعدما اتضحت بعض المشاكل في بطارياتها، الأمر الذي كان سيستدعي إجراء تحقيق داخلي في الأجهزة، وربما يتم كشفها.
المثير أن رئيس جهاز الموساد السابق، يوسي كوهين، نوّه في سبتمبر ٢٠٢٣، في مقابلة أجراها قبل الحرب بأقل من شهر، أن إسرائيل تريد اختراق “سلسلة التوريد الخاصة بحزب الله”.
هذه الرسالة لم يلتقطها الحزب، وربما اعتبرها محاولة دعائية للضغط، من مسؤول سابق يحاول أن يبدو قويًا.
إحراق الحصان في غزة
في ٢٠١٧، استطاعت إسرائيل تجنيد عميل في غزة استطاع الوصول إلى مرابض صواريخ كتائب القسام. طلبت منه المخابرات الإسرائيلية تصوير المرابض والصواريخ، ودلته على طريقة لتفخيخها، وكان الهدف تفجير هذه الصواريخ في مشغّليها بمجرد محاولتهم إطلاقها.
قام العميل بتفخيخ عشرات الصواريخ بنجاح باهر، لكن اتضح بعد بداية هذه العمليات بعامين، أن كتائب القسام كانت على علم وتنسِّق بالكامل مع العميل المزدوج، وأنها من أعطته الصواريخ ودلته على أماكن أخرى، بهدف معرفة نية الإسرائيليين.
ونشرت القسام لاحقًا مقطعًا يوثق إشرافها على الاتصالات الكثيفة طيلة العامين بين ضباط المخابرات الإسرائيليين وبين العميل المزدوج، ووثقت في نهاية المقطع تنظيف صواريخها من الفخاخ وإطلاقها الناجح، في عملية استخبارية معاكسة مثالية.
الخلاصة أن الهجوم الإسرائيلي على لبنان لم يكن بِدعًا من القول. خرق أمني كبير اعتمد على متابعة حثيثة ومعرفة بنقاط الضعف، لكنه في النهاية ليس خرقًا استراتيجيًا، بل هو تدمير لسلاح استراتيجي إسرائيلي كان يمكن استغلاله لإحداث تدمير جوهري أكبر من الضرر الذي وقع. بمعنى آخر، تخيل أن إسرائيل كانت تمتلك سلاحًا هائًلا يحتوي على رصاصة واحدة، لكنها أطلقته في وقت غير مناسب خوفًا من افتضاح أمرها.
ستُستكمل معارك الظل بأشكال أخرى، وسلاسل التوريد دائمًا ما ستكون حصان طروادة الناجح حينًا والمحروق أحيانًا أخرى.