سياسة
ما نعرفه حتى الآن هو محاولة نوعية لضرب أدوات القيادة والاستدعاء لأفراد من حزب الله اللبناني في وقت تعاظم فيه التصعيد بين الفصيل اللبناني وإسرائيل. النوعي في هذه العملية أنها كشفت هشاشة في الأمن العملياتي لحزب الله في معاقله لا في منطقة البقاع وحدها وإنما في الضاحية الجنوبية لبيروت وكذلك في دمشق.
أجهزة الاتصال اللاسلكي المثبتة على شرائح ذكية إما أنها فُخخت أثناء التصنيع وهذا يفتح الباب لاحتمالات: ١) إما أن التلاعب حدث في تايوان لدى المصنع الرئيسي لهذه الهواتف والأجهزة. ٢) أن يكون الاختراق حدث في المجر لدى الشريك المطور للبرمجيات. ٣) أو أن تكون الشحنة التي طلبتها قيادات حزب الله الميدانية فُخخت داخل الأراضي اللبنانية بتزويد الهواتف والأجهزة بمتفجرات شرائحية دقيقة ومعقدة لتلقي الأمر عن بعد بشفرة خاصة أرسلت بالتزامن لاستهداف عناصر بعينها. أستبعد الاحتمال الأخير لأن الاستهداف لم يطل السيد حسن نصر الله مثلا أو قيادات تبدو أكثر حرصا فيما تقتني وتحمل من أجهزة الاتصال، فضلا عن أعداد المصابين المهولة التي وصلت حتى كتابة هذا المقال لما يقارب الثلاثة آلاف، معظمهم مدنيون، ما يعكس فقر القدرة على التمييز الدقيق للهدف أو قنصه بشكل دقيق. السياق العسكري يؤشر بالطبع إلى مسؤولية إسرائيل عن العملية النوعية، وقد كان للاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) باع في هذا الصدد.
هذه هي العملية العابرة للحدود الأخطر إن صح أن الموساد من نفذها. فنوعية العملية تكمن في دقة حجم المادة المتفجرة نظرا لتفوق جهوزية حزب الله في مجال الاتصالات تحديدا وتفوق كوادر وقواعد الحزب في السيطرة على مطار بيروت وربط الاتصالات حتى حكوميا بالحزب إما بالهيمنة أو التحالف.
من السذاجة ألا يربط التحليل المبدئي لنوعية الهجوم بين التصعيد المطرد من جانب إسرائيل تجاه فصائل المقاومة الفلسطينية وبين جبهة إسرائيل المفتوحة مع حزب الله في لبنان، خاصة بعد تشتيت جبهتيها التقليديتين بثالثة شنتها ببراعة وحساب دقيق جماعة أنصار الحوثية على المصالح الغربية المرابضة أو العابرة في المياه الإقليمية في البرح الأحمر. جبهة لم يكن الغرب بغافل عنها، خاصة في ظل تواتر آليات الردع بين مجموعة ٥+١ وأحلافها في المنطقة وإيران وأحلافها بشأن ملفها النووي. فَتْحُ أبواب الجحيم على إسرائيل من الفصائل الفلسطينية المسلحة فاجأ القدرة الاستخباراتية الإسرائيلية وحط من سمعتها الرنانة، حتى مع استماتة إسرائيل في تنفيذ حرب الإبادة على المدنيين الفلسطينيين العزل ومحاولة تفريغ القطاع من قوته البشرية الكامنة. تلجأ إسرائيل تاريخيا للعمليات النوعية لسببين اثنين: أولهما إثبات التفوق ودحر نظرية ضعف العمليات على الجبهات المفتوحة أو الحروب التقليدية أو حتى حرب الشوارع التي يبرع فيها الفلسطينيون كونهم أصحاب الأرض والقوة البشرية الكامنة وأخيرا الأسلحة النوعية. ثانيهما الضغط على القيادات غير المركزية للصراع العربي الإسرائيلي خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، تاريخيا في سورية وإيران وداخل لبنان ممثلا في فصيل حزب الله. ليس هينا أن يصرح مسؤول بالفصيل أن الهجوم هو الاختراق الأكبر في تاريخ حزب الله.
عمم زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله قرار منع مقاتليه من استخدام الهواتف الذكية أو تلك المزودة بتطبيقات تكشف للأقمار الاصطناعية موقع حامل الجهاز، على غرار استهداف إسرائيل سابقا لقياديي حماس من بينهم القيادي المسؤول عن الإنشاءات العسكرية لحماس إسماعيل أبو شنب عام ٢٠٠٣. لكن الأدلة البصرية للمصابين ومواقع التفجيرات الأربعاء، تشير بالبنان إلى احتمالية تواطؤ شركة B.A.C.، ومقرها المجر بعد تعاقدها مع شركة جولد أبولو التايلاندية على توريد أكثر من ٥٠٠٠ جهاز كان الحزب بحاجتها وأمر بتوريدها. ذهبت نيويورك تايمز الخميس إلى أن شركة جولد أبولو كانت بالفعل تعمل لصالح الموساد في السابق وجزءا من أدوات إسرائيل العملياتية وفقا لمصادر ثلاث تحدثوا إلى الجريدة. وذهبت مصادر نيويورك تايمز إلى أن الشركة عملت ضمن عدد من الشركات الأخرى لإضفاء واجهة تخفي جهات تصنيعية تعمل لحساب الموساد.
يصنف هذا النوع من العمليات تقنيا بالعمليات التخريبية، استنتجت ذلك مجموعة ريماركس للتحليل العسكري في تحليلها المبدئي يوم الأربعاء، مستشرفة عدة استنتاجات مهمة: أولها أن الموساد لو صح أنه المنفذ يواصل تنفيذ عمليات استخباراتية نوعية بدلا من الدخول في مواجهات مباشرة مع حزب الله، ويسعى إلى الردع في ضوء المواجهات المباشرة منذ السابع من يوليو تموز ٢٠٢٣ امتدادا للمواجهة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية والتقليدية مع حزب الله. وثانيا إلى محاولة رفع سقف التململ اللبناني والغضب على فصيل حزب الله المسلح الذي استماتت الدولة اللبنانية في النأي بالنفس عن أنشطته خارج لبنان. ثالثا هذا الاستهداف يعكس إصرارا إسرائيليا على مواصلة التصعيد بهذا النوع من الاغتيالات على مستويات القادة بعد استهداف صالح العاروري وفؤاد شكر وإسماعيل هنية.
في الواقع أقرأ في تحليل مجموعة ريماركس عدة استنتاجات بنائية، أولها أن ما يسمى ”الحروب الجديدة“ آخذٌ في بناء خط طولي زمني في المنطقة أولها بدأ مع تجنيد المجاهدين العرب في أفغانستان وهو ما بدأ منهاج الحروب بالوكالة واتضحت قدراته فيما سمي ”الجراحة“ بالسلاح الخاص أو شركات الأمن الخاصة ما فتح الباب لتجنيد المرتزقة والابتعاد عن الخسارة البشرية الهائلة في القوات القتالية الأمريكية في العراق ثم التثبيت العملياتي بتشكيل قوات الصحوات. ثانيا ابتعاد الأمر شيئا فشئيا عن الحروب التقليدية المفتوحة سيكرس لخسارات فادحة في سوق السلاح – السوق الأثرى في العالم قبل المخدرات والأدوية. ثالثا وأخيرا سيستلزم الرد سريعا ونوعيا من حزب الله فعليا لأن إسرائيل لو نجحت في استهداف قيادات مهمة أو السيد حسن نصر الله ستغير للأبد قواعد الاشتباك مع حزب الله ولن تضطر للاستنزاف الأهم الذي نجحت في الاستئساد فيه عليها فصائل المقاومة الفلسطينية. كذلك سيرفع ذلك من قدرة فصائل المقاومة وحزب الله وأحلافهما على تطوير التسليح غير التقليدي والتحكم عن بعد فيما ينجح في تنفيذ هجمات معقدة وفائقة غير تقليدية لمواءمة قواعد الاشتباك الجديدة وإيلام العدو.