سياسة
اختلف الهدف هذه المرة، وانحرفت السيناريوهات إلى ما لم يتوقعه أرباب التحليل العسكري والأمني والاستراتيجي ولم تألفه حسابات الميدان. الثالثة والنصف من عصر الثلاثاء، لبنان في مهب حدث أمني غير معهود، سلسلة انفجارات صغيرة، ولكن مرعبة ومتزامنة في آن دوت جنوبا وبقاعا وصولا إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، المناطق المصنفة لبنانيا بأنها معاقل حزب الله وقاعدته الشعبية، وقعت جميعها صريعة الصدمة والذهول إثر عملية أمنية استثنائية لا أسقف فيها ولا ضوابط.
شبان ورجال ممددون على الأرض جراء انفجار ما يعرف بأجهزة “البيجر” المحمولة بأيديهم، وسرعان ما اكتظت الشوارع والأحياء وبعض المؤسسات والمحال التجارية بالجرحى والمصابين بإصابات وصفت بالمتوسطة والخطيرة، في مشهد مهول وعيون حائرة تبحث في لغز ما وقع عليها، وسط حال من الهلع والارتباك وضجيج المارة وسيارات الإسعاف المتلاحقة التي فاق عدد المصابين طاقتها الاستيعابية.
المأساة التي غطت المساحة الجغرافية المذكورة فيما يشبه عملية اغتيال جماعي، ما لبثت وأن انجلت تفاصيلها بمرور الدقائق الأولى. كمين تقني استخباراتي دموي بأيد إسرائيلية عبر اختراق دفعة كبيرة من أجهزة البيجر والتي كان الحزب قد استلمها قبل خمسة أشهر، في تدبير إجرامي معقد ودقيق استهدف عناصر ومنتسبين ووحدات مؤسساتية تابعة لحزب الله. وفي ما كان الآلاف يلبون نداءات التبرع بالدم في مختلف مستشفيات بيروت وباقي المناطق، توالت الاحصاءات عن آلاف الجرحى وسقوط عدد من الشهداء بفاجعة سيبرانية أظهرت تفوق فاعلها تكنولوجيا وقدرته على الإيلام والنيل من الجسم الأمني للحزب وجرأة لا محدودة في الوصول الى الهدف وهو ما اعتبر أقسى هجوم تعرض له حزب الله منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر الماضي.
تساؤلات غزيرة انهمرت في أجواء الداخل والخارج عن طبيعة المعطيات التي أفرزها منعطف خطير كهذا، وأي استدراج تمارسه إسرائيل لتنزلق بالمنطقة الى ما لا تحمد عقباه حيث لم يعد متاحا البحث في تسويات وحلول.
حزب الله بث بيانه الأول مطمئنا جمهوره إلى جهوزية المقاومة وعدم تأثر جبهة الإسناد الجنوبية بالهجوم السيبراني، ليعقبه بيان آخر يحمل فيه الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة والمباشرة عن واحدة من الهجمات التي شكلت تحولا في مسار الحرب مع لبنان متوعدا إياه بقصاص عادل من حيث لا يحتسب كما جاء في البيان، وذلك بعض أن شرع بتحقيق أمني واسع النطاق حول كيفية حدوث هذا الخرق الذي تسلل منه العدو وكيفية الوصول الى شحنة أجهزة الاتصال مرورا بالخطوات التي اعتمدت في ضمان الوصول الى أيدي حامليها بعيدا عن الانفعال أو إظهار أي ردة فعل متهورة.
من جهتها، التزمت إسرائيل بتعليمات نتنياهو ولاذت بالصمت عن الإدلاء بأي تصريح، وهو صمت اخترقته بعض التسريبات التي تلخص سردية إسرائيلية جديدة مفادها أن الأخيرة ضاقت ذرعا بحرب الاستنزاف القائمة وأنها تريد تغيير المعادلة بشكل أو بآخر من خلال إظهار عضلاتها التقنية والنارية وتحديها لمربع القواعد التقليدية الذي تحكم بمسار الحرب على جبهة لبنان المساندة لغزة حتى الآن، فيما أكد مسؤول سابق في جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) أن ما حصل خرق استخباراتي غير مسبوق، وسط تكهنات كثيرة خاضها محللون تقنيون واستخباراتيون تحدثت عن برمجيات اخترقت الأجهزة وأخرى رجحت سيناريو التفخيخ المسبق.
ماذا في ساعات وأيام ما بعد الهجوم؟ سؤال فرضته طبيعة الاعتداء الجديد والذي يحتم على حزب الله بطبيعة الحال ردا جديدا يتوازى مع حجم الحدث في سياق حرب استنزاف شارفت العام، واللجوء ربما إلى استخدام ما تتفوق به المقاومة والقادر على أن يجبي لها ثمن الجريمة، وإن اقتضى الخروج عن المألوف. أما نتنياهو فيبدو عاجزا حتى اللحظة عن اتخاذ قرار بحرب مباشرة وشاملة مع لبنان تنهي مجريات حرب الاستنزاف المفروضة عليه من قبل جبهات الإسناد المتعددة، وهو الغارق حتى الآن في مستنقع غزة عقب تشتت قائمة أهدافه عالية السقف التي وضعها منذ بداية الحرب، بل إن معظم التحليلات والتصريحات على لسان معارضي نتنياهو وبعض المحيطين به تشير إلى أن الرجل يمارس سياسة القفز في الهواء والهروب من مصير سياسي تحيط به لجان تحقيق ومحاكمات عبر نقل الثقل إلى الجبهة الشمالية من خلال توجيه ضربات استفزازية قاسية ضد حزب الله والمس بعصبه المركزي والأمني من نافذة تكثيف هذا النوع من الهجمات والاغتيالات، وهو ما أدخل الجبهة في مرحلة جديدة قد تختلف فصولها الميدانية والعسكرية عما سبق، لا سيما مع إعلان إسرائيل حالة التأهب القصوى واعتبار الشمال الآن هو جبهة الحرب الرئيسية.
أما على مستوى المنتظر من حزب الله فما من أحد الآن قادر على التكهن بما يدور في العقل الأمني والسياسي لقيادة الحزب، وعما سيذهب إليه بعد لملمة الدماء التي تناثرت منذرة إياه بالأسوأ على جدول أعمال عدوه والذي تخطى كل المحرمات وداس كل الخطوط الحمراء.
الثابت الأول راهنا وكما تشير وقائع الميدان الساخنة إلى أن الأمور ذاهبة إلى تصعيد يتقاطع مع توقعات باجتياح بري ربما أو توغل مدروس يترافق مع تكثيف لخضات أمنية واغتيالات سياسية وعسكرية إضافية. وعلى الرغم من اتساع دائرة الاتصالات مؤخرا والتصريحات المتكررة للإدارة الأمريكية لا سيما على لسان المبعوث الخاص بلبنان عاموس هوكستين بالسعي إلى احتواء الموقف وعدم الرغبة بالتصعيد وممارسة ضغوط هنا وهناك إلا أن خطى الدبلوماسية الأمريكية العرجاء غالبا ما تتعثر بتعنت نتنياهو وإصراره على إشعال الوضع وتغليف أزماته الداخلية بالمزيد من الإجرام والمجازر، إضافة إلى تصدع علاقته ببعض المقربين منه وعلى رأسهم وزير الدفاع يوآف غالانت الذي يصر نتنياهو على إقالته نظرا لرفضه خطط خوض حرب أوسع على لبنان لإدراكه المسبق بضعف قدرات جيشه المنهك والمستنزف في غزة مع تزايد أعداد القتلى في صفوفه. في ما يجيد نتنياهو مواصلة الاستثمار السياسي واللعب في الوقت الفاصل عن الانتخابات الأمريكية المقبلة مع ترجيحات بعدم وصول الجمهوري دونالد ترمب إلى كرسي البيت الأبيض.
بناء على ما تقدم، لا معادلات ثابتة في المشهد السياسي والعسكري، لكن المؤكد أن ما قبل الضربة السيبرانية التي تلقاها حزب الله في لبنان ليس كما بعده بانتظار جديد تحمله الساعات والأيام المقبلة والذي بلا شك سيكون أكثر سخونة على أرض ملتهبة بمعركة إسناد تستمر فصولها إلا اذا سحب البساط مجددا من تحت أقدام نتنياهو المنعطف نحو المزيد من الجنون وتلاشت مرة أخرى الغيوم الملبدة بحرب كبرى لا تبقي ولا تذر!.