سياسة

انتحار جيل، وثورته الممكنة

سبتمبر 17, 2024

انتحار جيل، وثورته الممكنة


“وقد يكون الاكتئاب على ذلك هو الحليف الأكبر للاستبداد وتوطين طغيانه.. وهكذا يستكين الإنسان المهدور من خلال تحالف قوى الاستبداد الخارجي مع قوى الهدر الذاتي، بدلاً من النهوض للمجابهة والتغيير”1


أنتظرُ إعلان انتحار واحدٍ من رفاق المعتقل بينما أكتب هذه السطورِ، إذ ترك إشارةً على وصيّته، واعتذر لأمّه، ثمّ اختفى. هذه واقعةٌ مكرورة  في جيلنا حد الجنون، وربّما حدّ الاعتياد عند غالب الرفقةِ الذين أصبح بعضهم يتساءل بما يشبه البساطةَ ظاهرًا: هل مات؟ ثم يكملُ ما كان يتحدّث عنه قبل السؤال؛ كأنّما السؤال طبيعيّ، وكذلك إجابته المؤكِّدة.


“الخسارة قرينة الحزن والاكتئاب”، وحالُ الجيل لا يختلفُ كثيرًا عن حال أفراده (أليس هو، بشكلٍ ما، محصّلتهم؟)، لكنّه في الجيل ليس مجرّد الحزن الذي يتملّك الفرد ويُغرقه في نوبات ظلمته، ويمكن تجاوزه بالحكي أو بمراكمة الإنجازات الصغيرة، وإن كان يُشبه صنفًا منه -الاكتئاب الوجوديّ أقصد- أكثر من البقيّة.


ذلك أن “الاكتئاب”، في أحد تعريفات فرويد: “هو تلك العدوانيّة المرتدّة للذات”. وعلى قدر العدوانيّة/الغضب المكبوت ذاك تكون الردّةُ عمقًا ورسوخًا، وربطُ هذا اللون من الاكتئاب -من حيث هو قرينُ الخسارة- بحلم العمر أو مشروعه، الذي سبق وتعلّق به صاحبه وعلّق عليه المستقبل كلّه، بل ولزم وجوده به (بعيدًا عن استحقاقه من عدمه)، خاصّةً وقد بغتهُ دنوّ هذا الحلم للحدّ الذي صدّق فيه تحقّقه ولمس فيه آثاره، ثم فجأةً ودون مقدّمات مُدرَكة: سقط فجأة واختفى، وبقي صاحبنا مذهولاً غير مصدّقٍ لما جرى، منفصلاً عن ذاته وواقعه الذي أمسى عليه بعد السقوط، فلا هو استعاد حلمه/وجوده ذاك، ولا امتلك الفرصة لاستيعاب ما جرى استيعابًا منطقيًّا واعيًا يحلل النتائج بأسبابها.


وإذا كان أحد أهمّ أسباب الانتحار (وجودًا وجسدًا) التي قاسها العلماء هي انعدام الأثر، فقد المكانة، الفشل .. ، وهي الأمور التي تستوجبُ الانتفاض دفاعًا عن المكانة والأثر-الذي هو قرينُ الوجود،وانعدامه ينفي وجودك، وسعيًا للنجاح والتحقّق، سواء كان ذلك في عملٍ أو علاقةٍ أو حتى “مشروع حياة”كالثورة مثلاً.


إلّا أنّ حدوثها المرافق للصدمةِ هنا، يجعل الانفعال سلبيًّا بالكليّة، ويوجّه الانتفاضة المتوقّعة إلى داخل الذات تحميلاً لها لمسئوليّة ما حدث، أو حتى صدامًا غير واعٍ مع ما حملت من معتقدات يظنّ المهزوم لحظتئذٍ أنّها مبرّر هزيمته، فيأكل نفسه أو معتقده بدلاً من خصمه الذي أوصله لذاك، ويرسّخ على هذا الحال هزيمته ترسيخًا دائمًا أو شبه دائم.


رفضًا للمعيار، لا عداءًا للذات


في اللحظة التي يجدُ فيها المرء، ذلك المقاتل السابق، الذي سقطَ الآن ولم يعد قادرًا على إدارة ذاته، أو السيطرة على انفعلاته حتى البسيط والبدائي/اليومي منها- مخيّرٌ قسرًا بين ناري الرضوخِ لينجو بحياته على الأقلّ، أو تلقّي الضربات (ماديّها ومعنويّها) بلا توقّف، يفكّر ساعتها في تخليق خيار ثالثٍ، إنسحابيٍّ بما يشبه حالته المنهزمة تلك، ويليقُ بم هو فيه من قعرٍ شعوريٍّ واجتماعيٍّ؛ فينتحر.


ويجب أن أعترف الآن بعيدًا عن تمييع المصطلحاتِ لأي سبب، أن رفض “الحظيرة” كلّ محاولة لأن يكون الإنسانُ ذاته، أو لما يعتقد (خاصّةً الثائر السابق، المعارض الحالي)، الذي هو أصلٌ لدى الحظيرة بغرفِها المختلفة (أمنًا وسياسةً وإعلامًا …) وتستوي فيها الصياغات الحاليّة كـ الحوار الوطني، وبرامج القيادة ومؤتمرات الشباب وتنسيقيّة الشباب، إلى آخر القائمة باختلاف مسمّياتها مجرّد صور لنسف وجود الذات الإنسانيّة الحرّة، كما يريد لها أصحابها، أو كما يحاولون، وهي في الوقت ذاته (الإرادة والأذرع) تعمّقُ بحدّة وعنف هذا الشقّ الهائل بين ما تريدُه أنت كإنسان وما أنت مضطرٌّ لأن تكونه حتى لا يُقضى عليك: منفيًّا من القطيع، أو منفيًّا عن ذاتك، أو منفيًّا من الحياة نفسها.


وانتحار الأشخاص -وهو ما قد ينطبقُ على وجهٍ ما على المجموع/الجيل في تعريفه المجازيّ- واحدٌ من صور الرفض لهذه الحسبة “أرفضُ التواطؤ؛ لن أكون جزءًا من هذه الجريمة، كما أنني لن أستطيع المقاومة؛ إذاً سأنسحب وألقي بنفس في العدم”.


وهو ما لا يمكن اعتباره حربًا على تلك الذات المهزومة بغرض هدمها والتخلّص منها بالضرورة، إنّما خلقٌ لغير المسارين القسريّين، ومقاومةٌ للإرادة الدافعة له فيهما-إرادة السلطة وأجهزتها هنا، لكن بأدوات سلبيّة أنتجتها حالة الهزيمة التي لم يعِ حقيقتها ولم يتبيّن كيفيّة الخروج من حفرتها.


“فمن يثور لا يكتئب، ومن يكتئب فهو عاجزٌ عن الثورة أو محرومٌ منها”2


والحلّ لا تبسيطًا ولا تهوينًا محصورٌ على الوعي بالحال، ذاتيًّا أو عبر مساعدةٍ من المحيط سبقت على طريق التجربة، أو ذات اختصاص علاجيّ، لإدراك أسبابه والتيقّن من كونها حالةٌ طارئة لا تحوّل في الأصل غير قابلٍ للتغيير أو فُقدت السيطرةُ عليه، وأنّ العجز الباديَ حيلةٌ مؤقّتة أحدثتها الخسارة، ويتجنّب العقل (الفرد أو المجموع) بها صدامًا لا يظنّ في نفسه القدرةَ على الانتصار فيه، لحديثِ عهده بالخسارة أو تراكم خساراته الذي رسّخ مظنّة أنّها قدره.

وتوجيه هذا الغضب إلى وجهته الصحيحة، تمامًا في الاتّجاه الذي أتى منه (السلطة في مثالنا، والاحتلال على مقربةٍ)، هو-في ظنّي- السبيل الوحيد لنجدةِ ذاتك من الغرق في الهزيمة حتى التعفّن، أو الفناء في الحظيرة الرسميّة انسلاخًا من ذاتك التي تعرفها أو تريدها، كما هي السبيل لنجدتك من قتل نفسك انتحارًا.


وذاتك التي تدّعي الكُساح بين جنبيكَ الآن، وجيلك الذي لا يتوقّف عن الندب بسبب القمع والحصار والتهديد والقتل الذي لا يتوقّف-رغم صدقهم، إلا أنّهما سيفاجئانك كما سيفاجئان السلطة وأجهزتها بما هي قادرةٌ على فعله لحظة المواجهة.


——–

هوامش 1،2: د.مصطفى حجازي، الإنسان المهدور.

شارك