مدونات

ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا: غزة المأساة لم تنتهِ

سبتمبر 17, 2024

ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا: غزة المأساة لم تنتهِ


يوافق السادس عشر من أيلول/ سبتمبر عام ١٩٨٢ ذكرى مذبحة صبرا وشاتيلا، تلك المذبحة التي تركت ندبة غائرة في جبين المجتمع الدولي، الذي لم يحرك ساكناً لحماية الأبرياء المدنيين في المخيم، فما زال ملف ضحايا صبرا وشاتيلا لم يُحسم بعد، رغم مرور تلك السنوات الطويلة على المذبحة، لم يهتز ضمير العالم لوضع العدالة موضع التنفيذ في هذه القضية، التي لطخت وجه الأنظمة التي تدعي الحرية والعدالة وحقوق الإنسان بالعار والشنار.


وإذا أردنا أن نعرف أكثر عن مخيم صبرا وشاتيلا، يقع مخيم صبرا وشاتيلا في الشطر الغربي للعاصمة بيروت، وتبلغ مساحته كيلو متراً مربعاً واحداً، أحدهما صبرا والآخر شاتيلا، فالأول يعد حياً تابعاً إدارياً لبلدية  “الغبيري” في محافظة جبل لبنان، يطلق عليه اسم صبرا جنوبي العاصمة بيروت ويجاوره مخيم شاتيلا.


يتسم مخيم صبرا بوجود أعداداً كبيرة من الفلسطينيين، فهو ليس مخيم بالمعنى الرسمي، في المقابل مخيم شاتيلا أنشأته وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في العام ١٩٤٩، يأوي الفلسطينيين الذين هربوا من البلدات والقرى الفلسطينية القريبة من لبنان بعد نكبة ١٩٤٨، إذن هو مخيم بالمعنى الرسمي.


وبعد لجوء أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى جنوب لبنان، بدأت العمليات الفدائية من جنوب لبنان تستهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي وتصاعدت مما أدى إلى اجتياح جيش الاحتلال الإسرائيلي لبنان بدعوي التصدي لهجمات الفدائيين الفلسطينيين، فحاصرت قواته بيروت مدة ثلاثة أشهر ، جوبهت بمقاومة شرسة من القوات المشتركة الفلسطينية- اللبنانية، وبعد نداءات دولية وجهود دبلوماسية مكثفة قادتها الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة، خرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، وأعاد جيش الاحتلال الإسرائيلي تموضع قواته وفك الحصار عن مدينة بيروت، وتلقت منظمة التحرير الفلسطينية وعود بعدم استهداف المخيمات الفلسطينية، ولطمأنتها دخلت قوات دولية فرنسية وأمريكية وإيطالية لتوفير الأمان للمخيمات الفلسطينية، وبعد تعهد الحكومة الإسرائيلية بعدم دخول قواتها بيروت وقدمت الولايات المتحدة ضمانات من أجل ذلك، ما لبثت أن انسحبت القوات الأمريكية والإيطالية بعد أسبوعين من الإتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وقررت القوات الفرنسية في المقابل الانسحاب، رغم طلب ياسر عرفات من القوات الفرنسية عدم الانسحاب، إلا أنها انسحبت في صيف الحادي عشر من أيلول.


في اليوم الرابع عشر ١٤ من أيلول/ سبتمبر ، اغتيل بشير الجميل زعيم حزب الكتائب اللبناني و الرئيس المرشح لتولي منصب رئيس الدولة، رأت قوات الاحتلال الإسرائيلي الفرصة مواتية لتنفيذ خطتها، اقتحمت بيروت الغربية وضربت طوقاً على المخيمات وأحكمت السيطرة عليها، بحجة الحفاظ على الأمن بعد مقتل بشير الجميل، ومنعت أهالي المخيم من الخروج، وفي الخامس عشر من أيلول ظهراً بدأت إرهاصات المجزرة فقتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي ٦٣ مدنياً فلسطينياً، ومع غروب شمس يوم الخميس وفي الساعة السادسة، بدأت القوات الإسرائيلية إطلاق القنابل المضيئة في أجواء المخيم، وشرعت في قصف المخيم وبدأت الميلشيات في الدخول وهي ميليشيا سعد حداد ( الموالية لإسرائيل في جنوب لبنان) وقوات حزب الكتائب اللبنانية وميليشيا حراس الأرز اليمينية، فأعملوا تقتيلاً وذبحاً وتعذيباً بأهالي المخيم، والذي كان يسكنه أيضاً بعض اللبنانيين والسوريين والسودانيين والباكستانيين والأتراك وجزائرية وتونسي وجنسيات أخرى، وباستخدام السلاح الأبيض كالبلطات والسكاكين، لم يميز القاتل بين فلسطيني أو لبناني، واستمرت المذبحة ثلاثة أيام، في السابع عشر من أيلول اقتحمت الميليشيات مشفى عكا وأعدمت بوحشية عدداً من الطاقم الطبي، من أطباء وممرضات ومرضى وأطفال ورضع.


وتواصلت عمليات القتل والإعدام الميداني ٤٣ ساعة بلا انقطاع، الميليشيات تقتل وتذبح وتسرق بتوجيه من ضابط إسرائيلي، وهنا يلخص الصحافي الفرنسي “آلان منراغ”، بعض مشاهد المجزرة في كتابه ( أسرار الحرب على لبنان) حيث قال: “اقتحم المخيم ٣٥٠ عنصراً في ١٩٨٢/٩/١٦ ليرتكبوا وعلى مدار ٤٣ ساعة، واحدة من أبشع المجازر في القرن العشرين بحق النساء والأطفال والشيوخ من المدنيين العزل”. إذن اتضحت الصورة إسرائيل تشرف من بعيد والمليشيات تنفذ على أرض الواقع.


سقط ما يقارب أربعة آلاف وأربعة آلاف وخمسمائة شهيد من ١٢ جنسية حسب شهادة الكاتب الأمريكي رالف شونمان أمام لجنة أوسلو في تشرين أول١٩٨٢، و٤٨٤ من الضحايا لا يزالون بحكم المخطوف أو المفقود، ولم يعد منهم أحد حتى الآن حسب المؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت في كتابها: “صبرا وشاتيلا أيلول ١٩٨٢” وتدمير جزء كبير من المخيم.


لا شك أن مقاربة مشفى عكا في مخيم صبرا وشاتيلا يلقي بظلاله على ما حصل في مشفى الشفاء داخل قطاع غزة، وتلك بلا ريب المقاربة الأنسب، بينما كانت عمليات القتل والموت تجري في مخيم شاتيلا، حاول بعض الفلسطينيون الفرار من المخيم والذهاب باتجاه بيروت الغربية، لكن اعترضهم جنود الاحتلال الإسرائيلي وأعادوهم إلى داخل المخيم، فأكملت المهمة الميليشيات المسلحة وأجهزت عليهم، في حين هرب آخرون إلى مشفى عكا طلباً للأمن، معتقدين أن أيدي المسلحين لن تصل اليهم، لكنهم وبعد لجوئهم إلى المشفى، اقتحمت الميليشيات المشفى وقتلتهم وقتلت أطباء وممرضات ومرضى.


فالمشهد نفسه تكرر في مشفى الشفاء وبشكل أعمق وأكبر، أعيد حبك خيوطها من جديد، وسقط من سقط من المرضى والأطقم الطبية بين شهيد وجريح، دليلاً دامغاً أن مذبحة صبرا وشاتيلا لم تنته بعد، ومازالت تحوم حول قاتلها، ومشهدها لم يغادر مخيلة القاتل، الذي يتلذذ بإعادة تنفيذ جميع فصوله بكل تعنت وإصرار على ملاحقة الأبرياء، وموالاة الباطل وخنق الحقيقة.


لا جرم أن صبرا وشاتيلا صورة مصغرة لما يجري في أرض غزة، إنها سياسة ممنهجة لاقتلاع أهل الحق من أرضهم وطمس حكايتهم،  لأن حكايتهم ناقوس يدق في ذاكرة أولئك الذين ألفوا سفك الدماء، وامتهنوا الافتراء وتزييف الحقائق، وها هي غزة الشاهد الحي على جرائمهم، تختصر عذابات وأنين ضحايا صبرا وشاتيلا، ويكأنها تقول الهم واحد والطريق واحد، وهو الخلاص من عبودية الظالم، فاليد التي أوغلت في دماء الأبرياء في صبرا وشاتيلا هي ذاتها التي تقصف وتدمر وتجوع غزة، لا فرق بينهما سوى أن الوجوه والأسماء تغيرت، سيما الهدف الأسمى بالنسبة لهم تحييد البريء وانتهاك حرمته من أجل أطماعهم الكبرى.


لا يستطيع المرء أن ينظر إلى غزة بمعزل عن كل المجازر التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي كي تكتمل الصورة، صورة غزة كشفت القناع عن تلك الوجوه التي اختبأت ردحاً من الزمن خلف الستار، تشارك الظالم بعبثه بأمن المجتمعات ونهب حقوق الآخرين، وأماطت اللثام عن العجز الذي ينخر العالم، الذي يكتفي بالفرجة من دون اتخاذ أي خطوات توقف المتجاوز عند حده.


تحمل صبرا وشاتيلا الأمل في إرجاع حق الضحايا، وتركن إلى غزة الصابرة رغم آلامها المهولة، في إرجاع حقها وحق كل مظلوم وقع ضحية جرائم الاحتلال، إن غزة أبية تأبى أن تطوي صفحة الجور وتستبدلها بصفحة الخنوع والاستسلام، فكتابها يحوي مئات القصص من قصص صبرا وشاتيلا، تقولها مدوية: لن يعرف العالم طعم الراحة ما دمنا نقتل ونعذب بلا أدنى وخز من ضمير.



شارك

مقالات ذات صلة