سياسة
لا يخفى على متابع أو مهتم ما آل إليه الحال في قطاع الصناعة في مصر، حتى استقر في وجدان جل الغيورين على وطنهم أن هناك مخطط لتدمير الصناعة الوطنية المصرية، وما يرسخ لتلك الفكرة أن الإفساد يتم لحساب حفنة من المستثمرين أقل ما يقال عنهم أنهم غير جادين بالنظر لنوعية الاستثمار أو عوائده ومخرجاته وما قد يضيفه للاقتصاد المصري، وإجمالا هي استثمارات تدر أرباحاً لأصحابها ولا تحقق شيئا للوطن.
فهل يُعقل أن تدمر صناعة تعيل ملايين المصريين من أجل عدد محدود من الأفراد يعملون لأنفسهم ولا ينظرون لأي قيمة إلا النفعية المباشرة والربحية. ومن الأمثلة الواضحة في القضاء على المنتج المحلي لصالح الاستيراد من الخارج قطاع الدواجن المصري. وقد أضيف إليه طبعا منذ ذلك الحين قطاعات صناعية كبرى ليس آخرها قطاع اللحوم الحمراء.
وبتطبيق تلك السياسة بلا قيود أو ضوابط تغلق منافذ الرزق لملايين الأسر المصرية وينضم أفرادها لقائمة العاطلين عن العمل. فلنفترض جدلا أن هناك منشأة صناعية أو إنتاجية أو حتى قطاع بأكلمه يعاني من مشاكل، فهل نسعى لعلاج الأزمة أم نجري عملية بتر.
أليس الأولى أن يتم استدعاء المسؤول لمجلس النواب للاستجواب والحساب. ولن يمكننا التغاضي عن مشكلات أخرى أكثر تعقيداً وضررا على الاقتصاد كالممارسات الاحتكارية ومكافأة الموالين للسلطة بفرص وحوافز استثمارية ، فضلاً عن دخول مؤسسات الدولة في منافسات غير متكافئة.
حتى في قطاع عريق كالقطاع الصناعي المصري وفي أغلب الأحيان لا تجد حلا يطرح بل الكثير من الحجج، واستكمالا لمثال قطاع الإنتاج الحيواني والداجن أتت التبريرات بأزمة قطاع الأعلاف بعد حرب أوكرانيا. وهذا قول حق يراد به باطل، أولا لأن الأزمة في هذا القطاع سابقة على حرب أوكرانيا. ثانيا دول العالم كافة تدعم المنتُج وتقدمه على أي اعتبارات أخرى حفاظا على مشروعاتها الصناعية خاصة التي تعيل ملايين المواطنين كهذا القطاع مثالا في مصر. أضف إلى ذلك القرارات المخلة باستقرار الصناعة، ويأتي ذلك في وقت زاد فيه الطلب على الدولار وترنحت العملة المحلية. الإفراط في الاستيراد يماثل في خطره الإفراط في الاقتراض، كلاهما يضع ضغطا على الدولار كعملة متداولة في معاملات مصر الاقتصادية الخارجية ومع المستثمرين. فهي خسارة على كل المستويات الحالية منها والمستقبلية.
وفي كل مرة تتعالى الأصوات مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هذه القرارات، يأتي الرد بأن هناك رقابة مستقبلية من البرلمان في نهاية دور الانعقاد أو من قبل الجهات الرقابية الرسمية.
لم أفهم أبدا لم كل هذا التحاشي للرقابة البرلمانية ومحاسبة ومساءلة المسؤولين أمام نواب البرلمان وهو ثاني أهم مهام المجلس التشريعي بعد إقرار التشريعات وصياغتها. فالواجب أن تناقش حيثيات القرار قبل إقراره وليس بعد أن تقع الطامة. وإذا ارتأى المجلس التشريعي بلجانه النوعية المختصة عدم جدوى المشروعات المقدمة أو المقدم بسببها المسؤول للمحاسبة أو المساءلة من البديهي أن تُلغى فورا ويفترض أن يتم النقاش مرة أخرى للتعديل أو الاستبدال. بل ومن البديهي أصلا وجوب مناقشة البرلمان لتوجهات الحكومة ودفعها لدعم الصناعة الوطنية وبأي كيفية.
كنا نطمح ومازلنا لتغيير الحكومة الحالية “سياسات وأفراد” لأن ذلك في حد ذاته مكسبا لمشروع الصناعة الوطنية المصرية. ولأن هذه الحكومة المكونة من أفراد عديمي الكفاءة ومنعدمي الرؤية أعلنت صراحة أنه لا حلول لديها للمشاكل الاقتصادية الحالية ومنها أزمة الصناعة الوطنية، فقولا واحدا ينبغي استبدالها بأخرى تقدم حلولا لهذه المشاكل. فلا السياسات الاقتصادية الصناعية أو الاقتراضية تتغير ولا حتى الأفراد الذين ثبت فشلهم الذريع في إدارة الملفين تعرضا لأي مساءلة أو محاسبة. أصل ممارسة الاختصاصات الدستورية يزيد كثيرا عن مجرد هز الرأس بالموافقة.
الشركات الرابحة التي تصور على أنها خاسرة في القطاع الصناعي تحديدا لتبرير بيعها بينما كثير منها مشاكله إدارية بالقطع وترتبط بكيفية إدارة الموارد واستحقاقات العمال والحد الأدنى للأجور. يتعلق الأمر بالأساس – كما هو الحال في كل ما نتناول – بنمط اتخاذ القرار من قبل صانعه ومن هم مفترض أن يُستفتوا أو يشرعوا أصلا لهذه القرارات. أي قرار مهم كالقرارات الاقتصادية من المفترض أن يتخذه أهل العلم مع المشرع وفقا للدستور واستنادا إلى العلم ودراسات الجدوى.
قرار كقرارات تصفية شركات أو مؤسسات لا يتخذ من قبل فرد ولا يجب أن يكون. فالمسكن الوقتي بدعم الاقتصاد ببعض الدولارات من عوائد بيع شركات تم وصمها بالخسارة ثم تصفيتها. إن المستثمر غير الوطني حتمًا وفي نهاية كل سنة مالية سيقوم بتحويل أرباحه للعملة الصعبة وتحويلها خارج مصر وهذا أفدح الخسارات. الاستثمار الحقيقي ليس البيع أو الاستحواذ على أصول قائمة، فمن دون القيمة المضافة لا يمكن الاعتداد بالاستثمار من الأساس. لأن ذلك ببساطة هو نقل للملكية وليس استثمارا.
أخيرا أقول لا يمكن أن نبيع الماضي لنعيش الحاضر ونزعم أن هذا لبناء المستقبل.