لملم المغتربون حقائبهم باكرا هذا العام، حملوا أمتعة الخوف والقلق، وغادروا بلاد الأرز على عجلة من أمرهم. لم يكتمل موسم الاصطياف عند ربوع جبال لبنان ولا عند شواطئه، ففي بلاد تعاند الحياة فيها رياح السياسة ولهيب الحرب المشتعلة جنوبا، ما لبثت وأن تعثرت مؤخرا عندما وقعت في كمين السفارات الأجنبية من جهة وطلائع المنجمين المتكاثرة من جهة أخرى.
وعلى وقع تهويل الغرف المغلقة في سفارات الغرب وبعض الشرق، وتنبؤات العرافين في بلاد حبلى بالأزمات ومكتظة بالباحثين عن ما يخفيه الغد، غادر الأحبة المدن والقرى تطاردهم إنذارات متلاحقة ومتسارعة بحرب وشيكة ولعنة ستحل قريبا ودعوات إلى المغادرة الفورية، فيما كانت المنافسة على أشدها بين مختصي التنجيم والتوقعات للتنبؤ بالويلات والثبور وعظائم الأمور.
وعلى خط حرب نفسية واستخباراتية حامية تديرها بعض السفارات، وعلماء فلك وتنجيم ركبوا موجة الترند على مواقع التواصل، دخل لبنان في دوامة جديدة من اللااستقرار وفوضى التحليلات وتقديم عرض متكامل للقادم كما لو أنه حقيقة ساطعة لا لبس فيها. وتولى الإعلام تغذية المجتمع بأخبار واشاعات مصدرها حدس فلان ومخيلة علان، وإضفاء مصداقية أكبر برسائل سفارة من هنا وأخرى من هناك جميعها توحي بأنها تمتلك معلومات دقيقة عن قرب وقوع الكارثة.
فجأة أصبحت حركة الكواكب والنجوم والمجرات العامل الذي يصادر العقول ويخطف الاهتمام ويتحكم بمفاصل الحياة اليومية على اعتبار أن الفلك هو العنصر الحاسم الذي يقرر يوميات اللبنانيين ويرسم تحركاتهم لا سيما عندما يتعلق الأمر بتوقع سوداوي يكشف شيئا من المستور ، وهي حيلة فعالة كونها الأكثر رواجا وأكثر ما يميل إليه الجمهور المتابع، وهكذا انطلقت سيمفونية التحذير والتهويل من على أجندة السفارات حينا وألسنة رواد الشاشات من حملة شهادات التنجيم والحاسة السادسة والرؤى من جهة أخرى لتحدثنا عن خضات أمنية وانفجارات واغتيالات مع ما يرافقها من نشر لحالات الهلع والتوتر وحبس الأنفاس وترقب الآتي، وهو ما انعكس بشكل أو بآخر على نمط الحياة اليومية للناس، في ظل غياب أي بديل عقلاني ومنطقي يعيد المجتمع إلى وعيه ورشده.
دخل الجميع في منازلة مبنية على إلهام من قرر الدخول إلى منازلنا إن كان على شاشات التلفاز أو على الهواتف بغرض اختراق النفوس وضخ سطور وسطور من التنبؤات المرعبة والمخيفة التي تنتشر كالنار في الهشيم، ووصل الحد أن خرجت إحدى من يحملن صفة “عالمة فلك” لتؤكد على الهواء مباشرة أن عددا من المغتربين الذين ألغو حجوزاتهم أو ممن أتوا وغادروا سريعا اتصلوا بها معربين عن ندمهم وبأنها كانت الأكثر واقعية ومصداقية من غيرها عندما أكدت مرارا ألا نذر حرب شاملة ولا ثمة ما يوحي بإغلاق المطار.
على هذا النحو نجح المتربصون بزرع الشكوك وإثارة البلبلة وزعزعة الوضع العام، وهو ما ترافق بطبيعة الحال مع خسائر كبيرة تكبدها القطاع السياحي بمنتجعاته وفنادقه وأماكنه المختلفة. لينجح المخطط بفعل من أرادوا استغلال الخاصرة الرخوة لبلد تعصف به التحديات متقنين التلاعب بشريحة واسعة من الجمهور المترقب لما هو قادم.
لكن الغيوم الملبدة انقشعت أخيرا لتكشف واقعا مختلفا تلاشت معه ما أثارته ثنائية التهويل والشائعات، التي ضربت عصب البلاد المتهالك أصلا، أما من نأى بنفسه وهم قلة، فرأوا أن بلدا كلبنان متعدد الطوائف والأحزاب والجماعات يحتاج إلى ثورة تقتلع هذه الموبقات من جذورها عبر مد جسور الوعي والنصح والتوجيه ومحاسبة الإعلام المأجور ورعاة الربح السريع وتحقيق المكاسب على حساب قضايا الناس وأوجاعهم، خاصة وأن بعضهم ثبت صلته بأجهزة أمنية وسياسية تستفيد بشكل أو بآخر من مخاطبة العامة وبث ما يخدم مسؤولا ما أو جهة نافذة. والى حين اندثار هذه الظواهر مازلنا نشهد انتشارا لهذا النوع من المحتوى الذي يحظى بتصديق عامة الناس بل ويطغى في أحيان كثيرة على الحقائق كون الفضول إلى معرفة المجهول يلاقي من يقدمونه على طبق جاهز ودسم بالتفاصيل أحيانا كثيرة دونما اكتراث إلى مقولة كذب المنجمون ولو صدقوا!