سياسة
في تموز/يوليو من عام 2023، شهدت النيجر، الدولة التي استغلت فرنسا مناجم اليورانيوم فيها لمدة تقارب السبعين عامًا، انقلابًا عسكريًا مفاجئًا. في تلك الفترة العاصفة، كانت فرنسا من بين طلائع الدول التي أعلنت استعدادها للانضمام إلى مجموعة دول إيكواس للتدخل العسكري في النيجر.
الأسباب التي ساقتها هذه الدول، ومن بينها فرنسا، كانت متمحورة حول ضرورة استعادة النظام الدستوري وحماية الديمقراطية. ومع ذلك، كشفت تصريحات صدرت عن القادة الجدد في النيجر، الذين أقدموا على سحب تراخيص تشغيل مناجم اليورانيوم ومصالح فرنسية أخرى، أن هناك دوافع أخرى خلف هذا التحرك السريع والحاسم، وهو أن فرنسا كانت تعمل بجهد لضمان عدم فقدان نفوذها الاستراتيجي ومنافعها الاقتصادية في النيجر، مما يشير إلى أن مصالحها في اليورانيوم والموارد الأخرى كانت على المحك.
تعكس التصريحات الفرنسية حول النيجر ارتدادًا صداه لأصداء ماضي الاستعمار، مستعيرة لغة الموظف والمُنظّر الاستعماري الفرنسي، دو توكفيل في عام 1848: حين قال “إذا كان للأفارقة الحق في الحرية، فمن المُسّلم به أن للمُستعمِرين الحق في حماية مصالحهم من تداعيات تلك الحرية”. بهذا المعنى، إن سعتْ النيجر -أو غيرها- للاستقلال من النفوذ الفرنسي يقابله إصرار فرنسي -الدولة الاستعمارية- في الحفاظ على مصالحها من أي تأثير سلبي قد تسببه الحرية الجديدة للنيجر.
كان أليكسيس دو توكفيل (1805-1859) مفكرًا سياسيًا وفيلسوفًا فرنسيًا يُعَد من أبرز مؤسسي علم الاجتماع السياسي الحديث. اشتهر بكتابه “الديمقراطية في أمريكا” (De la Démocratie en Amérique)، الذي تناول فيه النظام السياسي والاجتماعي للولايات المتحدة الأمريكية، محاولًا فهم أصول الديمقراطية الحديثة وتأثيرها على المجتمع. كما ركز دو توكفيل على العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر مناقشًا المخاطر التي قد تواجه الدول المستعمرة من حريات السُود والمناطق المُستَعمَرة. ويوضح البروفيسور الكاميروني، جان بول بوغالا، بأن السياسات الفرنسية المتبعة منذ فترة الاستعمار وعبر السنين التي تلت الاستقلال، قد استندت بشكل كبير على نظريات أليكسيس دو توكفيل، وفيما يلي بعض الأمثلة.
في جمهورية مالي
يرجع تاريخ استغلال الشركات الفرنسية لمناجم الذهب لجمهورية مالي إلى ستينيات القرن العشرين، حيث باتت فرنسا واحدة من الدول التي تتصدر قائمة الأكثر امتلاكًا للذهب، بينما هي في حقيقة الأمر لا تملك منجمًا واحدًا بشكل مستقل. ولذلك، في أعقاب قرار جمهورية مالي بطرد القوات الفرنسية من أراضيها في عام 2021، تلا ذلك فترة من عدم الاستقرار، حيث انتشرت الأسلحة الثقيلة بين جماعات إرهابية متعددة. وبحلول عام 2022، وجهت مالي اتهامات خطيرة ضد فرنسا، مدعية أنها انتهكت سيادتها الجوية وقامت بتسليم أسلحة للمتطرفين الإرهابيين بهدف زعزعة استقرار الدولة، وهذا ما يمثل تصعيدًا خطيرًا في الأحداث.
وصفي رسالة رسمية أرسلها وزير الشؤون الخارجية المالي، عبد الله ديوب، إلى رئيس مجلس الأمن الدولي، ادعى فيها أن المجال الجوي المالي قد تعرض للانتهاك أكثر من 50 مرة خلال العام، معظمها من قبل طائرات فرنسية تشمل الطائرات المسيرة والهليكوبتر العسكرية والطائرات المقاتلة. أوضح ديوب في رسالته أن هذه الانتهاكات لم تقتصر على التجسس، بل تضمنت أيضًا إسقاط أسلحة وذخيرة للجماعات الإرهابية النشطة في المنطقة. مؤكدًا أن لدى مالي أدلة دامغة على هذه الادعاءات وطالبت بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لبحث القضية، الأمر الذي لم يتم بسبب استخدام فرنسا لنفوذها كعضو دائم في المجلس لدرء هذه المحاولة.
في بوركينا فاسو
على نحو مُماثل وفي تطور درامي يعكس توترات إقليمية متزايدة، وجه إبراهيم تراوري، الرئيس البوركينابي، اتهامات لفرنسا، مدعيًا هو الآخر، أنها تسعى لزعزعة الاستقرار في بوركينا فاسو بالتعاون مع جيرانها بنين وساحل العاج. وأعلن القائد العسكري أن لديه أدلة دامغة ستُكشف للعالم قريبًا، وأن هذه الأدلة تتضمن تواجد قاعدتين فرنسيتين في بنين تستهدفان بوركينا فاسو مباشرة.
كما ذكر تراوري أن لديه تسجيلات صوتية لعملاء فرنسيين يعملون داخل بنين، حيث يشاركون بنشاط في مراكز قيادة العمليات الإرهابية، وينظمون ويدعمون هذه العمليات بشكل مباشر. وأكد أن هذه الأنشطة تشمل تقديم الدعم والمساعدة للمتمردين للعناية بأنفسهم وتعزيز قدراتهم.
في المقابل، رد الجيش الفرنسي بنفي قاطع عبر بيان رسمي، نافيًا الاتهامات بوجود قواعد عسكرية لها في بنين. وأوضح البيان أن الحضور العسكري الفرنسي في بنين يقتصر على الملحق العسكري والمتعاونين المنتدبين لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية، محاولين تقليل وطأة هذه الاتهامات التي تزيد من حدة التوترات في المنطقة.
في جمهورية النيجر
في ذكرى استقلال النيجر، في 3 أغسطس من العام الجاري، ألقى رئيس النيجر، عبد الرحمن عمر تشاني، خطابًا عن تقرير استخباراتي كشف فيه عن الأثر السلبي لفرنسا على بلاده عقب طردها، بعد خسارة فرنسا لمناجم اليورانيوم وغيرها من المصالح. مما دفع فرنسا إعادة تموضع عملاء المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي (الاستخبارات الفرنسية) الذين طُردوا من النيجر إلى بنين ونيجيريا، مثل توماس جوروسو، الذي كان يُعتقد سابقًا أنه مجرد رئيس أمن بسفارة فرنسا في نيامي، بينما كان عميلًا للمديرية، وقد انتقل إلى نيجيريا في فبراير 2024 ويتنقل الآن بين أبوجا وكادونا وسوكوتو منسقًا مع أعداء النيجر. كما تحدث الرئيس عن مراقبة النيجر للعملاء الآخرين وتتبع تحركاتهم، مؤكدًا أن الأفعال الفرنسية لزعزعة الاستقرار سترتد عليهم. وذكر أن الفرنسيين حاولوا إشعال حرب ضد النيجر بالتعاون مع جماعات إرهابية في بحيرة تشاد بين 25 و26 أكتوبر 2023، لكنها باءت بالفشل للاحتراب الداخلي بين تنظيم القاعدة وداعش في منطقة الساحل.
وقدم التقرير الذي قرأه تشاني تفاصيل عن كيفية استمرار فرنسا في التعاون مع تنظيم بوكو حرام الإرهابي التي قبلت العرض الفرنسي، حيث قامت بتسليم أسلحة للمجموعة الإرهابية في بلدة كولواكي، جزيرة في بحيرة تشاد في الحادي عشر من يناير لعام 2024. تم التسليم عبر طائرات مروحية وتمركز على بعد حوالي 25 كم شمال شرق مدينة بوسو.
بعد ذلك، في التاسع والعشرين من يناير، قام الفرنسيون بمهمة أخرى حيث عادوا إلى منطقة بوتون جورو في ضواحي بحيرة تشاد لتسليم المزيد من الأسلحة واستعادة بنادق AK 49 التي كانت قد منحت للإرهابيين سابقًا. وأشار التقرير إلى أن الفرنسيين بذلوا جهوداً لمسح الأرقام التسلسلية من الأسلحة لمنع تتبعها. كما تطرق أيضاً إلى وجود عملاء فرنسيين في مدن متعددة بالنيجر يعملون على زعزعة استقرار البلاد، معلنًا عن مراقبتهم وتحضير خطط للتعامل معهم بالتعاون الوثيق مع رجال الأمن.
وفي اتهام مثير آخر، ورد في تقرير رئاسة الجمهورية عن حادثة روّج الفرنسيون عبرها لأخبار كاذبة حول عمليات اختطاف مزعومة في حديقة “دبليو” W بجمهورية بنين، وهي منطقة تحت السيطرة الفرنسية، والتي يديرها الجيش الفرنسي ويسيطر عليها، مما يشير إلى أن الفرنسيين يتحكمون في النشاط داخل الحديقة ويستحيل حدوث اختطاف فيها. وأكد التقرير أن الروايات حول اختطاف رجل كندي وآخر دانماركي كاذبة، مشيرًا إلى أن الأفراد المعنيين هم في الواقع خبراء غربيون في المتفجرات والمواد العسكرية، وليسوا ضحايا.
في التفاصيل المتعلقة بالحادثة المزعومة، يذكر التقرير أن الرجلين الغربيين تم اقتيادهما إلى قاعدة فادا، وهي تحت إشراف الأمير “جعفارو ديكو” المعروف أيضًا بـ “الأمير مامودو”. في هذا المكان، شارك الخبيريْن في تدريب مجموعات من الإرهابيين على استخدام التقنيات القتالية وصناعة المتفجرات المرتجلة. وخلال شهر يوليو، ذهب رجلان وهما حبيب وسامبو دوكتورو بسيارة تويوتا لاند كروزر لنقل الغربيَيْن إلى قاعدة تقع بين قرية بولال وبولكاسي في بوركينا فاسو، حيث استمرا في تدريب الإرهابيين حتى منتصف يوليو. هؤلاء الخبراء، الذين تم تمويه المجتمع الأفريقي بأنهم مختطفين، كانوا في الواقع يعملون على تدريب الإرهابيين، ما يدحض الادعاء بأنهم رهائن، بحسب التقرير.
وأعلنت الرئاسة النيجرية استعدادها لعرض أدلة متعددة، بما في ذلك تسجيلات صوتية ووثائق، لدعم هذه الادعاءات. وتشير هذه الأدلة وفقًا لها إلى تورط فرنسا في دعم الأنشطة التي تزعزع استقرار النيجر، ومنطقة الساحل بدافع الانتقام.
الخاتمة: في كتابه “العمل في الجزائر” الذي صدر عام 1841، يطرح دو توكفيل نقاطاً بالغة الأهمية، يُمكن عبرها فهم المكائد الفرنسية الراهنة في منطقة الساحل. يقول: “لا أعتقد أن فرنسا يمكن أن تفكر جدياً في مغادرة الجزائر (وفي حالتنا هنا، النيجر). إن الهجر الذي ستقدمه سيكون في نظر العالم الإعلان الأكيد عن انحطاطها. لأن ذلك سيكون إزعاجًا أقل بكثير لرؤية انتصاراتنا يتم انتزاعها بالقوة من قبل دولة منافسة”.
ويستطرد قائلاً: ” يُمكن لشعب بكل قوته، وحتى في خضم قوة توسعه، أن يكون غير سعيد بالحروب والغزوات ويخسر بعض المقاطعات. وقد ظهر هذا بالنسبة للإنجليز الذين تمكنوا، بعد أقل من ثلاثين عامًا، من السيطرة على جميع البحار واحتلال المراكز التجارية الأكثر فائدة، تراجع نفوذهم بعد أن أُجبروا على التوقيع على معاهدة في عام 1783 التي استولت قوى معادية لها على أجمل مستعمراتهم في جميع القارات”.
ويخلص إلى قوله: “ولكن إذا تراجعت فرنسا عن مشروع لم يكن أمامها فيه سوى الصعوبات الطبيعية التي تواجهها البلاد ومعارضة القبائل البربرية الصغيرة التي تسكنها، فإنها ستبدو في أعين العالم وكأنها تنحني تحت عظمتها وتستسلم لعجزها. إن أي شعب يتخلى بسهولة عما أخذه بالقوة وينسحب بسلام من نفسه ضمن حدوده القديمة، يعُلن -دون دراية- أن الأوقات الطيبة من تاريخه قد مضت. ومن الواضح أنه يدخل فترة تراجعه… ولذلك لا يجب أن تتراجع فرنسا عن استعمار الجزائر”.
بهذه الكلمات، يلخص توكفيل تبعات الانسحاب من الجزائر على سمعة فرنسا العالمية، مشدداً على أن الاستمرارية في الاستعمار لا تكمن في السيطرة المطلقة فحسب، بل في الإصرار على مواجهة الصعاب دون الانكسار أمامها.
وفي ضوء التقارير التي تُدين فرنسا بالتدخل المضر في شؤون دول ثلاث تم طردها منها، نجد صدى واضحًا للمنطق الاستعماري الأوروبي الذي شهدناه قبل مئتي عام. من المعلوم أن فرنسا لن تترك مناطق نفوذها في منطقة الساحل دون مقاومة، وهذه حقيقة بدهية حتى للمراقب غير المتخصص. لكن ما يثير الدهشة حقًا هو الاتهامات المتواترة لفرنسا بالتعاون مع جماعات إرهابية من قبل القيادات الجديدة في الساحل، وذلك بهدف إحباط أي تطلعات نحو استقلال حقيقي يمكن أن تراود مستعمراتها السابقة.
أود أن أشدد هنا على أن فرنسا لا ترى في تحركاتها خُبثًا سياسيًا، بل تعتبره حقًا مشروعًا ينسجم مع فلسفة توكفيل الاستعمارية كما وردت في كتاباته. تعمل فرنسا وفق هذه النظرية، مؤمنة بأنه إذا كان لسكان الساحل -والأفارقة- الحق في الاستقلال والحرية، فإن لها الحق في بذل كل ما في وسعها لحماية مصالحها وحفظ نفوذها. هذا المعتقد، الذي يجسد الفكر الغربي، يظهر ليس فقط في الساحل، بل أيضًا في ليبيا، العراق، أفغانستان، واليوم في فلسطين، وفي أي مكان آخر يرى فيه الغرب تهديدًا لمصالحه، مستعدًا للتعاون مع الإرهابيين أو حتى تبرير الإبادات الجماعية كما في غزة.
وترتيبًا على ما سبق، ينبغي ألا يعتبر المراقبون الاتهامات الموجهة إلى فرنسا بتأييد الإرهاب مجرد أوهام أو حجج يُروج لها قادة يسعون لحماية مصالحهم الذاتية، أو تخيلات من زعماء يسكنهم جنون الشك. بل هي تحديات أمنية جدية تستحق البحث والتدقيق.
ومن هذا المنطلق، يُصبح من الواضح لأي عاقل أن الشراكات السياسية الحديثة التي ينسجها قادة أفريقيا مع دول كالصين، روسيا، وتركيا ليست إلا استراتيجيات ضرورية للنجاة في مواجهة دولة ماكرة ترى أن لها الحق في حجب الاستقلال والحرية عن الأمم الأفريقية إذا ما كان ذلك يهدد بتقويض نفوذها.
ومع ذلك وبناءً على جميع ما سبق، يتضح لأي متابع حصيف أن الانحطاط الفرنسي ليس إلا مسألة وقت، فكما يقول المثل: “الدجاجة ترقص مذبوحة، لا عيش ولا قوة.” يُستخدم هذا المثل للإشارة إلى النشاط الكبير أو الفوضى التي تحدث في اللحظات الأخيرة من موقف ما، أو كرد فعل يائس في نهاية المطاف.. ومؤكد أن النفوذ الفرنسي على أفريقيا في نهاية أيامها.