يستدعي ذهني الضاجّ بما فيه مقطعًا من أحد كتب علماء النفس التطوّريين يسرد فيه تجربةً عن “الفدائيّة” في العوالم الحيّة، ليقول بوجود أشباه للتضحية والفداء عند البشر، بحكم طبيعة الصّلة عند العالِم ومنهجه بيننا وبين الحيوانات.
وضرب مثالاً حيوانيًّا لأحد الأفراد الذي يُنذرُ القطيع باقتراب المفترسات، قيامًا بدوره الذي تحدّد له، أو تصادفَ قيامه به اضطرارًا، وموقعه على حدودِ الوردِ أو المرعى، رغم أن صيحة نذيره تلك تودي بحياته غالبًا، لكنّها تنقذ بقيّة مجتمعه.
أتذكّر المثال مع حديثٍ ثنائيٍّ، استنكرَت السيّدةُ الصديقة عليّ رغبتي في الذهاب لغزّة ومحاولاتي التي باءت بالفشل حتى الآن منذ أكتوبر الماضي، وخططي التي طرحتها عليها وصولاً لهذا الغرض، باعتبار أنّ مكاني هناك، خاصّة الآن، ورأت ذلك “جزءًا من الخلل النفسي، أو هروبًا من الواقع عجزًا عن مواجهته والتعاطي معه”.
وفي ذات اللقاء كنت أحكي لها عن خططي الحياتيّة، تلك التي تشبه عامّة البشر: تأسيسًا لبيت، وشراء سيّارة، واستكمال دراساتي العليا، والسفر والكتابة.. إلى آخر قائمة رغبات واحتياجات ما بعد عقد الاعتقال وما تهدم فيه.
وقد استفزّني ما رأته من تناقضٍ بينهما، كما استفزّني و”خضّني” موقفها، وظللتُ أشرح وأفسّر، وكلّ ما يصطدم بذهني أثناء النقاش المحموم ذاك: كيفَ يمكن لخطوةِ الفداء (أو حتى الاستجابة الطبيعيّة لشعور إنساني) أن تُرى كانتحار؟
أيّ ابتذالٍ لها أن تُرى هكذا؟ وأيّ تنفيرٍ منها وإنكارٌ لها كحقّ أصيل -إن لم يكن واجب- تسويقها أو التقاطها على هذه الصورة؟ أليست حياة النّاس -كلّهم- مشحونة بالصعاب وربّما المآسي؟ كيف يمكن الفصل بين هذه الاستجابة الطبيعيّة، وبين “الفرار” من بؤس الواقع انتحارًا؟
وإذا نفينا اتخاذ القرارات تحت ضغط -كضغط الإبادة مثلاً- بعيدًا حتى عن تراكم القناعات بخصوص القضيّة ودورنا في الصراع، فما الذي يضطرّنا لاتخاذ قرارات تمسّ حياتنا ومصيرنا ومستقبلنا؟ ثمّ هل هناك “مناضلو براح” أصلاً؟ أولئك الذي ينضالون -أو يُجاهدون- من باب شغل الوقت أو التسلية أو حتى الوجاهة ؟
دعكم ممّا في هذا الحديث من “تثبيط”، أليس هذا مناقض لجوهر الإنسانيّة أصلاً؟ أن تتوقّف عن التفاعل والتعاطي مع الحوادث على قدرها بعيدًا عمّا ستحتمله من أعباء أو يطالك من ضرر؟ أن تضحّي بالمجموع حفاظًا على حياتك أو سلامك النفسي أو مصالحك؟
المثل الأوّل في الأعلى ينفي أن يكون هذا سلوك “حيوانيّ” حتى، الطيور والحيوانات وغيرها من الأحياء تضحّي وتقدّم نفسها لأجل المجموع، في لحظات الاختبار والخطر والتهديد، “النحلة” تلدغ ما يهدد الخليّة وهي تعلم أن اللدغة ستودي بحياتها، لكنّها تفعل حفاظًا على القرناء؛ فكيف يُطلب من “الإنسان” المكرّم خلقًا، والمتباهي بذاته وعقله بين الكائنات، ألا يفعل؟ أن يتدنّى لدركةِ أسفل من الحيوانات؟
وكيفَ لا يُفهم أن الرغبة في التضحية، والاضطرار لها، لا تناقض مطلقًا رغبتك في الحياة واستمتاعك بها وامتلاكك الخطط فيها لمائة عامٍ قادمة. أليست أعظم التضحيات هي تلك التي يقدّمها المفعمون بالحياة والراغبون فيها، لكنّهم يتخلّون عنها بكل ثبات عند اختبار العقيدة أو الفكرة أو الوطن، أو حتى الحبيبة؟
أشعر بخوف من هذا الاستسهال في التعاطي مع قيم تأسس عليها جوهر الإنسانيّة، وقامت بها حضاراتها -غير الماديّة- وحميت بها الأوطان والاعراض والحقوق..
وعملاً بوصيّة سيدي الشهيد البطل “ماهر الجازي”: إن لم يكن لكم دينٌ، فلتكن لديكم عزّة ونخوة. هل هذا كثير؟