مدونات
في الثالث من سبتمبر حدثت معركة عين جالوت لا نبالغ حين نقول إنها معركة الأمة بلا شك، وقعت تلك المعركة والأمة الإسلامية كانت تعاني من انتكاسات مريرة وخطب جلل جثم على صدرها، عندما توالت الأخبار عن سقوط بغداد بأيدي المغول، وأُعمل فيها حملات القتل المريع الذي لم يشهده العصر آنذاك، فبعد حصار دام أياماً استباح المغول بغداد بصورة قاسية وشنيعة، فعلوا فيها الأعاجيب وعاثوا فيها فساداً وتخريباً ، وقتلوا من المسلمين ما لا يعد ولا يحصى، ودمروا حاضرة الرشيد تدميراً كبيراً، دخلها هولاكو حفيد جنكيز خان وتمكن من الإمساك بالخليفة العباسي المستعصم بالله سنة ( ٦٥٦ه) وفتك به وبأسرته وقضى عليهم جميعا ً، وبذلك أطيح بالخلافة العباسية، وتم تدمير مكتبة بغداد الشهيرة والتي كانت تحوي آلاف الكتب القيمة من مختلف صنوف العلوم والآداب والفنون التي لا تقدر بثمن ألقيت في نهر الفرات، وقتل جيش هولاكو كما قال المؤرخون ما يقارب مليون إنسان في بغداد وحدها، فبدا نهر الفرات مصبوغ بلون دم القتلى ولون المداد الذي كتبت به الكتب، وأضرموا النار بالمدينة.
ولم يكتف المغول بقيادة هولاكو باجتياح بغداد، فاتجه هولاكو بجيشه ناحية بلاد الشام، فسقطت دمشق بعد أن استسلم أهلها لحصار شديد، ومعظم مدن الشام كحلب التي ارتكب فيها المغول مذابح مروعة أصابت المسلمين بالفزع والرعب، حتى عدت تلك الهجمة المغولية من أكبر المصائب التي نزلت بالأمة الإسلامية، لهول الأذى الذي ذاقه المسلمين على أيدي المغول. ولم يكتف هولاكو بذلك بل أحكم سيطرته على نابلس والكرك وبيت المقدس وغزة، ثم اتجهت الأنظار لغزو مصر، في ذلك الوقت كان الجيش المغولي من أقوى الجيوش على الإطلاق ولم يستطع أي جيش الوقوف أمامه، فقد اجتاح بلدان عدة بسرعة كبيرة كإيران وبغداد وبلاد الشام، في بغداد دخلها هولاكو بجيش قوامه مئة وعشرين ألف جندي وهؤلاء الجنود يعدون من أقوى الجنود الذين امتازوا بالمهارة القتالية العالية في فنون النزال والقتال، وجرأتهم في ميادين المعارك ووحشيتهم في قتل الأبرياء وترويع الآمنين، ويعدونها من نقاط قوتهم بإدخال الخوف والهلع في قلوب الناس، فيسهل عليهم السيطرة على المدينة التي يريدون.
مصر كانت تحت حكم المماليك بقيادة سيف الدين قطز، بعد أن خلع الملك ” المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك” وهو صبي لا يمكنه ادارة شؤون مصر في فترة عصيبة تمر بها الأمة الإسلامية، كان لا بد من القيام بتلك الخطوة والتي تولى تنفيذها نائبه، لم يكن لديه مفر من مواجهة حاسمة مع المغول، فقد أيقن أن الإسلام على المحك فإما أن يقوى الإسلام أو لا تقوم له قائمة وينتهي للأبد، فالحرب كانت بالنسبة له مصيرية ستقرر مستقبل البلاد الإسلامية فيما بعد.
تواصل زحف التتار في البلاد الإسلامية والسيطرة على كل بلد يدخلونه واحداً تلو الآخر، واستعد سيف الدين قطز لمواجهة المغول، فشرع في تجهيز الجيش المصري لمواجهة جيش المغول، وتكاد تكون المواجهة مع جيش هولاكو ضرب من ضروب الانتحار، فلم يخسر معركة واحدة وقد جاب العالم بطوله وعرضه بمساندة دول كأرمينيا وجورجيا وتواطؤ مع الصليبيين، فقد كان الصليبيون ينتظرون فرصة تواتيهم ليجددوا حملاتهم على البلاد الإسلامية، بعد هزيمة نكراء ذاع صيتها في جميع أرجاء العالم على يد الناصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين وما بعدها.
أدرك السلطان سيف الدين قطز المخاطر التي تحدق بمصر والبلاد الإسلامية، الخطر المغولي والصليبي، إضافة إلى الصراعات الداخلية التي يدور رحاها بين الإمارات الإسلامية بعضها ببعض، وترجم ذلك عندما رفض تهديد رسل هولاكو الأربعة من مغبة الوقوف في وجه هولاكو وخوض معركة ضد جيشه العرمرم، وعليه الاستسلام وتسليم مصر له، وإلا ستكون عاقبته مثل البلاد التي اجتاحها وسيطر عليها، ومما جاء في كتاب رسول هولاكو نورد مقتطفاً منها: (فنحن ما نرحم من بكى ولا نرق لمن اشتكى وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تأويكم وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم؟) وبعد سماع قطز رسالة هولاكو قرر قراراً غريباً وجريئاً في نفس الوقت، فبعد أن أخذ مشورة قادة الجيش قرر أن يقتل رسل هولاكو الأربعة، وبالفعل قتلهم وعلق رؤوسهم على باب زويلة في القاهرة، ليرفع معنويات الجيش ويدرك الشعب المصري أن قائدهم قوي لا يخاف الأعداء ولا يهابهم ، وليحفزهم على القتال، وينزع الخوف من قلوبهم، ويلقي الرعب في قلوب المغول.
دبت الخلافات بين إخوة هولاكو فاضطر العودة إلى دياره، وتسليم دفة قيادة الجيش لنائبه كتبغا، وجدها قطز فرصة ذهبية وعليه ألا يفوتها، فزحف بجيشه ناحية فلسطين، كانت هذه خطة قطز الذهاب إلى كتبغها قائد جيش هولاكو بدل أن ينتظره حتى يأتي إلى مصر، ودارت رحى المعركة في مكان يسمى عين جالوت بين نابلس وبيسان، انتصر فيها المسلمون انتصاراً عظيماً اهتزت له الدنيا بأسرها وتردد صدى هذا الانتصار في جميع بلاد الإسلام، بعد أن اندحر جيش التتار وقتل كتبغا، وتضعضع الجيش المغولي وفر خوفاً وفزعاً، فلما رأى سيف الدين قطز فرار الجيش المغولي، ترجل عن جواده وصلى ركعتين حمداً لله على نصره.
ما كان للمسلمين أن يسجلوا انتصاراً ساحقاً ومدوياً تعجب منه القاصي والداني على عدوهم، لولا إيمان القائد ويقينه بنصر الله وتأييده لجنده، حتى في أوج التحام جيش المسلمين مع جيش المغول وحمى وطيس المعركة، صاح قطز ” وا إسلاماه وا إسلاماه، يا الله انصر عبدك قطز”، لم يكن الانتصار أمراً مستحيلاً ولا قضية شائكة، تحتاج إلى التفكير العميق والتأمل، وإلا لقضي على الدولة الإسلامية والإسلام وتابعيه، وهذا ما أيقنه قطز مبكراً وقال كلمته المشهورة ” من للإسلام إن لم نكن نحن” .
وتلك غزة تواجه أعتى الحروب الشرسة في العصر الحديث، شنت عليها من عدو لئيم يشبه إلى حد كبير هجمة التتار على البلاد الإسلامية، وكأن لسان حال العدوان الصهيوني ينطق بما قاله رسل هولاكو المتغطرسين: ( فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع والعساكر لقتالنا لا تنفع ومطركم علينا لا يسمع…” ولسان حال غزة كحال قطز وقتما أرسل رده إلى هولاكو قائلاً: ” إن عصيناكم فتلك طاعة، وإن قتلناكم فنعم البضاعة، وإن قتلنا فبيننا وبين الجنة ساعة…”
والشهادة غاية كل مجاهد وأقصر طريق إلى الجنة ورضا الله، فلا خوف من الموت لأنه مرحلة وتتلاشى فالحياة الحقيقية هناك في الآخرة، ذلك هو الاتصال العجيب بين غزة وكلمات قطز الخالدة: ” الفرار من الدنايا لا من المنايا، فهجوم المنية عندنا غاية الأمنية، إن عشنا فسعيداً، وإن متنا فشهيداً…”
كذلك غزة على طريق الخلاص تستلهم من معركة عين جالوت المباركة أم الانتصارات إرهاصة نصر قادم، وعده الله عباده الصالحين.