الحكم التاريخي الذي أصدرته المحكمة الإدارية العليا المصرية عام 2017 (رقم 54916 لسنة 62 ق) في إلزام رئيس الوزراء عدّ البطالة أحد مؤشرات ومعايير استحقاق الضمان الاجتماعي استنادًا إلى المادة السابعة عشرة من الدستور “المعدل عام ٢٠١٤” ، والتي تنص على أن “تكفل الدولة توفير خدمات التأمين الاجتماعي، وأن لكل مواطن لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي الحق في الضمان الاجتماعي بما يكفل له حياة كريمة إذا لم يكن قادرًا على إعالة نفسه وأسرته، وفي حالات العجز عن العمل والشيخوخة والبطالة” وألزم الحكم الواجب النفاذ رئيس الوزراء بإصدار قرار بتحديد ضوابط وقيمة الحدين الأدنى والأقصى لهذا الضمان.
ولا يخفى على متابع أن الحكومة استماتت في إجهاض الحكم واستندت إلى صدور قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات رقم 148 لسنة 2019 والذي نص على شمول نظام التأمينات الاجتماعية على “تأمين البطالة“. ثم جاء حكم محكمة القضاء الإداري (رقم 59163 لسنة 75) الواجب النفاذ أيضا، والصادر في عام 2023، وقد أوضح أن تأمين البطالة يخاطب العاملين في القطاع العام وقطاع الأعمال العام والمنتظمين في القطاع الخاص الذين يفقدون أعمالهم بشكل مؤقت، ويستثنى من ذلك الذين لم يسبق لهم العمل من قبل وحكم بتعويض المتضررين جراء امتناع رئيس الوزراء عن تنفيذ الحكم، ليرسخ للمرة الأولى في التاريخ المصري الحديث أن تعويض البطالة حق دستوري أصيل وليس منحة من الحكومة يمكنها التراجع عنها.
العديد من المؤتمرات والندوات وجلسات الحوار والنقاش والفعاليات التي عقدت في مصر والتي طالما تعالت فيها أصوات الحضور مطالبة بحقوق العمال وبضرورة إنشاء وتنظيم عمل النقابات حتى لا يتم دفع العمال إلى اللجوء مباشرة لممارسة حقوقهم الدستورية بالإضراب أو الاعتصام وخلافه “وهو حق أصيل كفله الدستور والقانون”. وكان من مخرجات تلك الفعاليات واستقاء من آراء من لهم باع في التعاطي مع الدولة في قضية بناء أو تقويض النقابات وبعد الثناء على القضاء شاكرين له أنه قام بدوره موضحين أنه أصبح على المجتمع المدني أن يطالب بإعادة النظر في منظومة التشغيل بالكامل، حيث يجب تسجيل جميع العاملين والمتعطلين عن العمل والوافدين الجدد لسوق العمل في قاعدة بيانات موحدة، بل وأن يتم إنشاء منظومة للتدريب التحويلي تمكن العامل من تغيير مجال عمله إذا لم يجد فرصة في سوق العمل رافعين تلك المطالب إلى الحكومة في انتظار الاستجابة.
تحقيق ذلك يتطلب رؤية أوسع وأشمل لفكرة ومنظومة العمل والحقوق المدنية. ولا يمكن التعويل في ذلك على جهد النشطاء العماليين فقط، ولا على الحق الأصيل في التعبير السلمي عن الاحتجاج أو حتى العصيان المدني. فبالنظر مثلا إلى قضية الحد الأدنى للأجور وصل الحد الأدنى للأجر في عام ٢٠١٣ إلى ١٢٠٠ جنيه مصري، وفي عامنا هذا ٢٠٢٤ إلى ٦٠٠٠ بناء على توجيه من رئيس الجمهورية. بينما القيمة الحقيقية للحد الأدنى للأجر في عامنا هذا تقل عن نصف القيمة التي كان عليها في عام ٢٠١٣ لأسباب كثيرة وبديهية منها التضخم، عجز الموازنة، الانخفاض في القدرة الشرائية، التعويم الجزئي أو الكلي إن حدث، الإفراط في الاقتراض وشروط صندوق النقد وغيرها الكثير.
حتى لو حاولت الحكومة المصرية بكل السبل كبح جماح التضخم ، والضغط بل ولي عنق الطبقات الكادحة بكل طريق لجذب الاستثمارات الأجنبية عبر إغرائها بوجود عمالة رخيصة وتسهيلات إجرائية، ستبقى بيروقراطية الحكومة تكبل القطاع الخاص، وأنياب رجال الأعمال تعض على يد العامل والسلطة معا. المعادلة هنا ليست حاكما ومحكومين، الشبكة الاجتماعية الاقتصادية السياسية التي خلفها نظام مبارك ربطت السلطة برأس المال غير الوطني بأشكال أصبح من العسير فك تفاصيلها ودرء مفاسدها.
السلطة ترى أن ارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه يعكس الأداء الاقتصادي لمصر على مدار ٥٠ عاما. حتى لو سلمنا بذلك، ألم تكن العشرة أعوام الفائتة جزءا من تلك الأعوام الخمسين؟ أليست مدة عشر سنوات كافية لخطتين خمسيتين إصلاحيتين ؟ ألم ينبه إضراب العمال في بدر وسوهاج والمحلة الكبرى وشركات الأسمنت والحديد والصلب واعتصاماتهم وتظاهراتهم بين مطرقة السلطة وسندان أصحاب الشركات إلى أن هناك خللا رهيبا وتفاوتا يفقد العامل القدرة على العيش بأي شكل يؤمن وجبتين لأطفاله أو تكفلا بعلاج أو لوازم تعليم أو مواصلات؟ لما اندلع إضراب غزل المحلة في فبراير كانت ظلال ٢٠٠٦-٢٠٠٨ حاضرة بقوة رغم القبضة الأمنية الرهيبة. فما كان من الحكومة إلا الرد بالحل الوحيد الذي تعرفه وتمارسه الآن على الجميع ودون تمييز، الحل الأمني، التهديد، الاعتقالات، التنكيل بكل عامل طالب بأبسط حقوقه وفقا للدستور وبطريقة نص عليها الدستور ولغرض فرضه الدستور.
ستبقى الحركة العمالية جمرا تحت النار طالما بقيت العدالة الاجتماعية في مصر بلا ميزان، وطالما بقي الحد الأدنى للأجور، وهو أبسط الحقوق بين قبضة الدولة وتروس ماكينات أصحاب الأعمال.