آراء
في الزمانات التي ليست بالبعيدة بكثير لم تكن أخبار الحروب و رسائلها تصل إلا لفئات معدودة، فمن كان حريصاً على متابعة جولات الكر والفر سيتابع، ومن كان شغوفاً في تحديث معلوماته حول نوعية العتاد العسكري المستخدم سيراقب، ومن لديه مذياع أو تلفاز كان بمقدوره أن يكون متواجداً على مستوى الحدث وفي أحسن الأحوال سيعلم ما حدث بالأمس، وبعد ذلك تطورت الحياة وأصبحت القنوات الفضائية بمراسليها حاضرة على أرض المعركة كأطراف ترقب وترصد وتنقل ما يحدث، ونتج عن ذلك أن دوائر من تصل إليهم مجريات الأحداث في الحرب قد كبرت وتعددت ولكن لازالت السيطرة على الاتساع في المتناول، أما اليوم ومع الفضاء المفتوح، والسرعة الرهيبة في انتقال المعلومة، وقدرة الصغير قبل الكبير على متابعة ما يحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعي تم الإعلان وبشكل رسمي عن فقد السيطرة على حجب معلومات الحرب ورسائلها عن الجميع بمن فيهم الأطفال.
إن الأطفال يخفون خلف براءتهم تلك القدرات الرهيبة على حفظ الصور وتخزينها، وتركيب الرسائل مع المفردات والعمل على تحليلها، وربط الرموز بالحركات والسكنات وتأويلها، والعجيب في عالم الطفولة أننا لا يمكن لنا أن نتوقع التوقيت الذي سيأتي به السؤال المباغت عن أحد التفاصيل الصغيرة التي تكمل لديهم الجزء الناقص من الصورة الكلية لحدث ما، ولا يمكننا أن نختار ما يصح لهم استحضاره من معلومات وما لا يصح خوفاً على أن تتعرض مراحل نموهم لطفرات غير متوقعة، ولا يمكن لنا أن ندخل في عالم أحلامهم ومخيلاتهم وبناء السدود التي ستوقف لديهم عنان ربط الخيالات بما هو موجود على أرض الواقع، وحتى نكون أقرب في توصيف العلاقة الخطرة بين الطفل والرسائل الإعلامية من الحروب فإننا لن نجد تعبيراً أدق من تحضير القنبلة الموقوتة التي ستنفجر يوماً ما، والخطورة تكمن أيضاً في عدم معرفتنا بتوقيت الانفجار وهل سيكون ذلك بالمكان الصحيح أم الخاطئ.
لقد صدق ربنا حين قال في كتابه (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) حين لخص ما يجب على النبي عليه الصلاة والسلام وبقية المصدقين أن يفعلوه تجاه حادثة الإفك، فالرسائل الإعلامية الخبيثة التي سعى أهل الفتنة والنفاق والشقاق أن يتعرضوا بها لعرض النبي عليه الصلاة والسلام والنيل منه وإن كان في ظاهرها إيذاء وتعدي فإن في باطنها خير لمن افتري عليه وإظهار لصدق موقفه وبراءته، ونحن اليوم إذ نرى تلك المعارك المحمومة في الأوساط الإعلامية المصاحبة لمعركة طوفان الأقصى المباركة ندرك تمام الإدراك إن في باطنها خير كثير للأجيال الحاضرة والقادمة، فهذا الطوفان الذي باتت مجرياته وأحداثه وقيمه المتحركة حاضرة عند الصغير والكبير لا شك أنه بمثابة المدرسة الإيمانية والسلوكية والفكرية والحركية والاقتصادية والتكافلية والنفسية سواء لأجيال للمؤيدين للطوفان أو المعادين له.
إن قسمات وجوه أطفال غزة وفلتات ألسنتهم تنبؤنا ان أجيالاً حولت تلك الصور التي شاهدوها إلى وقود لانتقامهم الذي يكبر يوماً بعد اليوم، فبالنسبة لهم الدماء لا تنسى بتقادم السنين بل تكبر وتعظم طرق الثأر لها وتصبح أخطر، فطفل غزة حين يسمع من أحد خنساوات حيه عن تقديمها لثلاثة أو أربعة من أبنائها فداء في معركة طوفان الأقصى سيدرك أن وجوده على تلك البقعة المباركة هو اصطفاء واختيار، وأن مضيه في طريق التحرير ليس ترفاً بل هو تمحيص واختبار، فهم يدركون أن الحياة لا طريق لعيشها بسعادة إلا إذا تم عيشها بكرامة ورفعة، فالطوفان أتى ليؤكد لهم المؤكد، وليضع لهم بدل الشاهد على النظريات ألف شاهد، ولينبت أشجار اليقين بتحقق النصر في قلوبهم ويسقيها لهم من جديد وإن سار قبلهم على الطريق خمسون ألف شهيد.
إن الطوفان قد أكمل طريقه حتى بلغ برسائله إلى عموم أطفال فلسطين وأنار لهم طريق التحرير الذي جيرت لهم من الأعداء المليارات حتى يرونه بعيدا، فمن راهن على أن أطفال الضفة قد وضعوا الحجارة من أيديهم ونسوا كيف يستخدموا المقلاع قد خاب هو ورهانه، فكلنا رأينا أن السور الأول في جنين وطول كرم وطوباس هم أطفالها وفتيانها الذي يقولون للعالم أننا ما زلنا هنا، وأن الطوفان نعلم كيفية الغطس والسباحة فيه وسنأتيكم من داخله دون أن تعلمون، فاليوم أطفال فلسطين تهاوت أمامهم أباطيل المفاوضات وخيبات التنازلات، وعلموا زيف الاتفاقيات والمؤتمرات، وأيقنوا أن الخلاص لا يأتي إلا بتشكيل الكتائب تحت أصوات التكبيرات، والنصر قرين سرج العاديات والسيوف اللامعات.
إن ما أحدثته رسائل طوفان الأقصى في ذهنية أطفال العالم الحر المناصر للعدالة من المسلمين وغير المسلمين يعتبر بمثابة اختصار للسنوات والعقود، بل وإن الكثير من العقبات التي كانت موجودة أمام تصحيح العديد من المفاهيم قد جرفها الطوفان وبذر محلها ثمار العزة والكرامة والمقاومة، فمن كان يتصور أن المقاطعة الاقتصادية أحد أهم عوامل نجاحها واستمرارها في الأسر والمجتمعات هم الأطفال، ومن كان يتصور تلك المشاعر التي عبرت آلاف الكيلومترات حتى أصبحت مشتركة بين أطفال المسلمين وأطفال غزة، فأطفالنا أصبحوا يتحدثون عن جوع أطفال غزة، ووجع الفقد في غزة، وبدأت الأسئلة حول اليتم كيف يرمم في غزة، وعن الألم والجرح والكسر كيف يعالج في غزة، وعن المهرب والمفر من الغارات كيف يكون في غزة، فتلك الحدود التي رسمتها اتفاقيات سايكس بيكو قد انهارت أمام عواطف الأطفال البريئة.
وكم كان يتمنى الأعداء لو أن الطوفان قد اكتفى بتأثيره الفكري والثقافي والأخلاقي والسلوكي على أطفال غزة وفلسطين والمسلمين فقط، بل هم اليوم مندهشون من حجم التغير في أطفالهم تجاه ما عملوا عليه جاهين لعقود طويلة من تشويه وتحريف وتزييف للحقائق بغية التصديق المطلق لها، فاليوم الأطفال الذين يعيشون في دول المساندة والمشاركة مع الكيان الصهيوني في الحرب على غزة قد تشكلت منظومة جديدة من الحقائق تنسف أباطيل الحريات والعدالة والمساواة وتقبل الرأي الآخر وحق الجميع في العيش بكرامة كما كان يروج لهم في مجتمعاتهم وبلدانهم، فهم اليوم يرون أن كل تلك الشعارات قد تهاوت أمام أعينهم في أقل من عام، فالطوفان قد أنشأ أجيالاً جديدة حاملة لقيم لم تتعود عليهم تلك المجتمعات وتكبر معها بصمت مقلق.
إن طوفان الأقصى برجاله الصادقين قد قاموا بدورهم وفتحوا أبواب مدرسة عالمية لتخريج الأجيال بقيم ربانية وفضائل سامية، والدور اليوم يقع على عاتق الجميع بأن يأخذ كل منا معه دلو من الماء ليسكبه على تلك البذور التي رميت في كل جوانب المدرسة، فمدرسة الطوفان في حقيقتها واحة خضراء تربتها خصبة ستنمو بها وتكبر أشجاراً من العزة والقوة والمنعة والاكتفاء الذاتي لهذه الأمة، فأجيال نشأت تاركةً ما لدى أعدائها من مغيرات تشبع رغباتهم لا ينبغي علينا أن تركها تحارب المغريات والشهوات دون سند ونصير، وأجيال قبلت وآمنت بأن المقاومة هي السبيل الأوحد نحو تحرير سائر فلسطين سيكون من العار علينا أن نربي فيها التنازلات والرضا بالفتات من جديد، وأجيال بدأت تسأل الأسئلة الصحيحة حتى تصل إلى الإجابات الشافية سيكون من الجريمة بمكان أن نعيد أسئلتها نحو تفاهات الدنيا وصغائر الأمور، فعلينا أن ندرك أن أجيال الطوفان قد كبروا وستكبر معهم أمتنا حتى يتحقق امر الله، والله غالب على أمره فيا ليت قومي يعلمون.