Blog
لا طالما كان عهدي هو بيع الأمل. بداية من تأسيسي لمنظمة بلادي أثناء الثورة المصرية. وعملي مع الأطفال الذين يسكنون الشارع. نعم، هناك مستقبل أفضل. أنا أحلم به، فاحلموا معي. قلت لهم.
سنخيم معا في نويبع. حول النار ليلا وعلى صوت أمواج البحر سنحكي قصصنا وآلمنا. في ذلك المنتجع سيتم معالجة “أطفالي” من الإدمان، إدمان الشارع، وحياة التشرد والمخدرات. من العنف. ومن اليأس.
حتى عندما رأيت “أطفالي” مقبوضاً عليهم في قسم الشرطة مصطفين وهم جاثين على الأرض، وقال لي أسامة “يا ميس، نويبع دي طلعت حلوة اوي”، بالنكتة المصرية المعتادة، التي تحوي بين طياتها ألم كبير، تمسكت بالأمل.
وكان رمز أملي ابتسامة السجن المعتادة. فعندما رأتها زميلتي السجينة “أحلام”، التي لم تعرف عني سوى ما قيل من أكاذيب، قالت، “يستحيل أن تكون صاحبة الابتسامة تلك مجرمة أو كاذبة أو مدعية”. وصدقتني واشترت مني الحلم والأمل.
واشتراه مني النائب السابق مصطفى النجار حتى أنه كتب عنه في مقاله في صحيفة المصري اليوم. حتى عندما وجدت من اشترى أملي، تتم ملاحقته من السلطات حتى يختفي هو قسريا ولا يعلم مصيره أحد، ظللت متمسكة بالأمل، حتى عندما بدأ اليأس بالتسلل إلى قلبي.
ثم عندما بدأت أوطاننا في الانهيارة، واحدة تلو الأخرى، وسُئلت عن الأمل، اقتبست في بيعي الأمل قصة حكيم. سأله متحد عن عصفور في يده. فقال له، أيها الحكيم، هل سينجو هذا العصفور أم يهلك؟ كانت نية الشاب إن قال الحكيم أنه سينجو، أن يهلك العصفور وإن قال أنه سيهلك، أن يطلق سراحه حتى يثبت قلة حكمة الحكيم. فرد الحكيم “العصفور في يدك يا بني”.
وكانت تلك إجابتي. الأمل في يدنا. إن أوجدناه وُجد، وأن عجزنا وتركناه نُسي.
وهكذا سرت في أيامي، أحفر الأرض أفتش عن الأمل. إلى أن سمعت عن طوفان الأقصى. رأيت صور الفلسطينين التي تم محاصرتهم ونهب أراضيهم وخيراتهم والتخلي عنهم من كوكب الأرض يحلقون عاليا في السماء، كأنهم في قصة خيال علمي.
حلموا فحلمت معهم. فإن كنت أنا أبيع الأمل، فهم من يصنعوه! حتى وجدت رد العدو الصهيوني. وشراسة دول الغرب وخيانة وخذلان دول الشرق. وجدت الرجال والنساء والكهول والأطفال. يعاقبون على أملهم وحلمهم. حتى الرضع. تتم معاقبتهم استباقيا. على حلم كانوا سيحلموه لو كبروا.
يوماً بعد يوم، رأيت دماء الأطفال تسيل. حتماً سيتوقفوا بالغد! حتما لن تتقبل الإنسانية تلك المشاهد. سيدرا وتالا وجود. و”يوسف اللي شعره كيرلي”. والطفل الذي قتل وهو يمضغ الطعام! حتما سيتوقفوا. حتما سيساندهم العرب. والطفلة التي ذهبت لتتجزلج وقتلت لأنها تحب الحياة. ويزن الذي قُتل جوعا. ووالد التوأمين الذي ذهب ليحضر لهم شهادة ميلاد، ليكتشف أنه عليه أن يخرج لهم، ولوالدتهم الطبيبة، شهادة وفاة!
فكيف نفتش على الأمل داخل القبور؟ لم أعد أعرف. فتشت حولي في البلاد العربية. بدأت في مصر. فأصدقائي هناك إما سجناء سابقين أو سجناء حاليين. وهذا بات العادي. أما الآخرون، فربما كانوا طلبة أنجب مني. واشتروا اليأس.
التفت إلى سوريا واليمن. ثم إلى السودان. وهناك تحطمت. فإن كان لأهلنا في غزة رغم الألم والموت والخذلان، بواكي، فأهلنا في السودان، لا بواكي لهم.
تحدثت مع أصدقائي. هو، قتل أقاربه الصهاينة. هي، قتل أقاربها الجنجاويد. فخارت قواي. كيف حدث كل ذلك؟ بعد ثلاثة عشر عاما فقط، بعدما صنعنا كلنا معا الحلم في الميادين، من تونس إلى مصر إلى البحرين إلى سوريا، نهتف “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وكرامة إنسانية” بات الفقر والسجن، والآن، القتل، هو العادي. هو الطبيعي. هو الحياة!
وفي يأسي، بعدت عن الحياة العامة. فكفاني بيع الوهم! تمردت على نفسي وعلينا. حاول بعض الأصدقاء ردي للأمل وللحياة العامة. أثرت بعض كلماتهم. لكن لم أجد قوتي.
ثم وجدتها في أغرب مكان. في كاتب يقف في المنتصف بين صفوف العدو وصفوفنا. يريد وطنا لليهود، لكنه لا يريد إبادة الفلسطينيين و يتألم لهم.
ففي حربه لتوقف الإبادة، وليستفيق شعبه الذي ينتمي إليه من شراسته، قرر هو بيعهم اليأس بطريقة ما. ذكر في مقاله، إن “الإسرائيلين حتما لا يشاهدون صور معاناة الفلسطينين وصور الفظاعات تجاههم. على الأقل ليس بالشكل الفج الذي هو في الواقع. لكنت حتى لو رأوا. لزادتهم الصور شراسة وشماتة في الفلسطينيين”.
ثم حكى عن بصيص أمل. عن نوتة موسيقى بين القبور. عن زرعة خضراء لينة بين الصحراء. وهي فيديوهات الغزيين التي تملأ التيك توك. كيف يباشرون حياتهم اليومية، ويحتالون على الحياة والموت والقهر ليحيوا. عن هذا الذي يصنع “جيم” من لا شيئ. عن هذه التي تتفنن بالطبخ دون أي معدات. عن الأخت التي تزين أختها العروس. عن التي تعلم الأطفال من دون كتب. فقال، ربما لو شاهد الإسرائيليون تلك الصور، سيدركون أخيرا حينها، أنه لا نصر مطلق لهم.
فرغم كل محاولاتهم في القتل والإبادة، تستمر الحياة. و الغزي المقاوم، لا يقاوم الكيان فقط، بل يقاوم الموت واليأس. وهاهو، بحياته، وبحياتها، يصنعون الأمل.
وأمام أملهم وحلمهم، أخجل. لا أخجل من بيع الأمل. بل من التخلي عنه. لا لبيعي الأكاذيب والأوهام. بل لأني صدقت أنها كذلك.
ها أنا أبيع الأمل مجداا. ليس لأنه معي. لأنه معنا. لأنه حولنا. فها هو حولنا كل يوم. في الحياة. في ضحكة طفل. في ابتسامة فتاة.
نعم. الأمل موجود، طالما وجدت الحياة.