سياسة
يشكل تسارع أعمال المقاومة بالضفة الغربية ونهوضها تهديدياً حقيقياً للاحتلال ومشروعه الاستيطاني الإحلالي فيها٬ حيث تشكل الضفة نقطة ارتكاز حقيقية للمشروع الصهيوني لا يمكن التخلي عنها في النهاية أو العودة للتفاوض عليها٬ فهي “الأرض التي وعد الرب الشعب اليهودي بها”٬ وهي “قلب الحلم اليهودي”، الذي يحمل “البعد التاريخي والديني” المزعوم لهذه الدولة.
وتجمع التيارات الصهيونية في دولة الاحتلال تقريباً -ربما باستثناء حزبي ميرتس والعمل- على مشروع ضم الضفة الغربية لدولة الكيان ومضاعفة النشاط الاستيطاني بها٬ ولا يكون تطبيق ذلك إلا بطرد الفلسطينيين منها وتمكين المستوطنين من جميع مفاصلها بعد تقطيعها وتحويلها إلى جزر معزولة٬ وتضييق الخناق على الفلسطينيين فيها عبر تحويل حياتهم اليومية إلى جحيم متكامل٬ بدءًا من انعدام حرية التنقل أو سرقة الأراضي أو الإغارة عليها أو حرق الممتلكات أو تقليل حصة الفلسطيني من المياه أو غيرها الكثير من الأساليب التي تدفع لإخراج الفلسطيني من أرضه بأي شكل كان.
وخلال سنوات حكم نتنياهو حامل مشروع ضم الضفة وراعي التيارات الدينية المتطرفة٬ تعيش الضفة حرب استنزاف على جميع المناحي٬ إذ لا تكاد تتوقف الآلة العسكرية الإسرائيلية عن عمليات الاقتحام والتدمير والقتل والتهجير، فقبل معركة طوفان الأقصى كان يتم التعامل مع الضفة بأنها “منطقة حرب غير معلنة”، حيث الاقتحامات اليومية والإغارة على القرى والبلدات٬ ومعاناة سكان مئات القرى فيها من الحصار والقتل والتضييق والتهجير من منازلهم، مثلما وقع مع تجمعات القرى البدوية في السفوح الشرقية للضفة٬ والذين تم إهمال قضيتهم بالكامل وتركهم لقمة سائغة أمام جيش الاحتلال وميليشيات المستوطنين.
وبعد “طوفان الأقصى” أصبحت الحرب على الضفة الغربية علنية٬ وأصبح المسؤولون الإسرائيليون ينادون بضم الضفة وطرد سكانها وسحق أي فلسطيني يرفع رأسه فيها٬ وباتت البلاد مستباحة من شمالها لجنوبها في ظلّ حكم عسكري صهيوني مباشر، يعززه تمكين ميليشيات المستوطنين المسلحة بقوة، الذين يشنون هجمات دموية ومدمرة بغطاء كامل من الجيش والحكومة التي سلحتهم ودرّبتهمم وحمتهم من أي ملاحقات قانونية أو عقوبات أمريكية وغربية مثيرة للسخرية.
ويشكل هؤلاء الترس الأساسي في مشروع الحركة الصهيونية بالضفة٬ التي يطلقون عليها في الأدبيات العبرية اسم “يهودا والسامرة” ويتعاملون معها كقضية عقائدية تستحق تفجير الصراع لأجل “استعادتها”٬ بحيث لا تكتمل الدولة اليهودية “التي وهبها الله للشعب اليهودي” إلا بالأرض المقدسة في “يهودا والسامرة”٬ أي الضفة الغربية.
ووفق العقيدة اليهودية، يعتبر التاريخ العبري بمجمله الضفة الغربية، هي مركز دولة “إسرائيل” القديمة، حيث قامت فيها دولتا يهودا و”إسرائيل” بعد انقسامهما في الضفة الغربية، حيث تنسب اليهودية لنفسها إرث الأنبياء داود وسليمان عليهما السلام. وتقول هذه الأدبيات أن مملكة “إسرائيل” قامت في شمال الضفة وكانت عاصمتها آنذاك نابلس “شكيم”، ويطلق عليها اسم السامرة (شومرون) فيما قامت مملكة “يهودا” في الجنوب، وكانت عاصمتها القدس٬ لذلك تجد ومنذ نشأة الكيان٬ أن كل قطاعات الدولة الصهيونية وكل حزب أو مواطن فيها -بغض النظر عن توجهاته- لا يطلق إلا لقب “يهودا والسامرة” على الضفة، في رفض كلي بالاعتراف بالتسمية الفلسطينية.
وفي العقيدة التوراتية، تقول أحزاب الصهيونية الدينية إن التوراة تنص على أن “أرض الضفة الغربية يجب أن تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية، لما في ذلك من تقريب لعودة المسيح المخلص لليهود”. ووفق معتقدات هذا التيار٬ فإن السيطرة على الضفة لا يكون إلا ببناء جبل الهيكل مكان المسجد الأقصى انطلاقاً من تجهيز “المذبح” الذي تم بناؤه في عام 2015 ليتم نقله لاحقاً إلى المسجد الأقصى.
لذلك٬ وفق فتاوى الحاخامات اليهود، فإن التنازل عن الضفة الغربية (يهودا والسامرة) أو التفريط بها لا يجوز في الشريعة اليهودية. على سبيل المثال٬ وضّح الحاخام أليعيزر ملماد، وهو من رجال الدين المنتمين للصهيونية الدينية، أن “ترك الضفة الغربية خارج السيطرة الإسرائيلية ممنوع وفق الشريعة اليهودية”، بل “من الممنوع إعطاء العرب الموجودين فيها، مواطنة شبيهة بتلك التي يتمتع بها اليهودي”.
وهذا ما يفسر اليوم، تركيز دولة الاحتلال وبرامج أحزاب الصهيونية على مشروع الاستيطان بشكل كبير في مناطق الضفة الغربية٬ بعد ضم مناطق الأغوار بالكامل٬ حيث أصبحت قوى الصهيونية الدينية تسيطر بعد دخلوها في الائتلاف الحكومي مع نتنياهو على ما يعرف بـ”الإدارة المدنية” التي تدير الضفة الغربية٬ حيث يقول وزراء مثل سموترتش إنه يهدف إلى “تصحيح الظلم” الذي لحق بالمستوطنين، وتطبيق القانون الإسرائيلي في توسيع مستوطنات الضفة الغربية٬ التي امتنعت “إسرائيل” منذ عام 1967 عن إعلان سيادتها على عليها٬ بادعاء أنّها تديرها “وفقاً لقوانين الاحتلال في القانون الدولي”٬ وبالتالي يجب التحول من “الضم الزاحف” البطيء إلى “الضم السريع” للضفة الغربية.
وترى التيارات الصهيونية أن ما حدث عام 1967 بانتصار “إسرائيل” على العرب٬ وضمها القدس وأراض عربية إلى جانب ما تحتله من فلسطين٬ انتصار “ربّاني” للحركة الصهيونية، وتنامى هذا التيار بعد توقيع اتفاقية أوسلو (1993) وما وصفوه بالتنازل عن أجزاء من “أرض إسرائيل”، بالتالي هم يرون أنهم الآن يصححون التاريخ بإعادة احتلال كامل الضفة وإنهاء أي فكرة موجودة داخل عقل المفاوض الفلسطيني تتحدث عن “حل الدولتين”٬ وهذا ما أكدته حكومة نتنياهو مراراً وتكراراً للعالم.
وكما تحتل الضفة هذه الرمزية الدينية والتاريخية والعقدية المزعومة لدى الكيان الصهيوني٬ فهي محط الصراع الدائم لدى الفلسطينيين والمسلمين عموماً٬ فهي أرض الأنبياء ومعراج محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء٬ وهي جوهر التاريخ والحضارة التي تمتد لآلاف السنين٬ وهي معنى الإنسان الفلسطيني وهويته وبقاءه. وثمن تمسك الفلسطيني الضارب أقدامه في عمق أرضها هو التضحيات والدماء التي تسيل منذ 100 عام٬ ولا معنى لفلسطين بدون الضفة كاملة٬ التي يحاول الاحتلال ابتلاعها كل يوم وسرقة تاريخها وحاضرها ومستقبلها.
ولا شك أن الإنسان الفلسطيني في الضفة اليوم لا خيار أمامه إلا رفع السلاح في وجه المحتلين والدفاع بكافة الأشكال عن أرضه وعرضه بعدما تخلى الجميع عنه٬ على رأسهم “السلطة” التي من المفترض أنها تمثله وتحميه٬ لكنها بدلاً من ذلك تلعب أدواراً مخزية أخرى٬ مثل تعقب المقاومين وتسليمهم إلى جيش الاحتلال٬ بدلاً من تمكين المقاومين الذين يحفظون البلاد٬ كما مكّنت دولة الاحتلال ميليشيات المستوطنين.
وتحمل المسؤولية ومواجهة المخرز بالكف٬ ليس بالغريب أو الطارئ عن ضفتنا٬ فالانتفاضتين وما بينهما تشهدان على قوة وبأس الضفة التي جعلت شارون يفكك مستوطناته شمالها عام 2005 ٬ أو جنين التي جعلت الاحتلال يطلب هدنة لإجلاء قتلاه من مخيمها عام 2002 ٬ كما تشهد مستوطنات الاحتلال على مئات العمليات التي هزت المشروع التيار الصهيوني وضربت أركانه٬ لولا ما كان في “أوسلو”٬ أو ما كان بعد عام 2005 ٬ حيث عطّل مشروع “سلطة رام الله” الحلم الفلسطيني طويلاً وكاد يذهب بكل تضحياته في الانتفاضتين٬ وهبّاته المباركة التي كانت القدس عنوان معظمها وتفجرت في 2013 و 2015 و2017 و 2019 و2021.
واليوم في 2023 وما بعده٬ حيث أعظم معركة يخوضها الشعب الفلسطيني٬ معركة “طوفان الأقصى” التي ستوحد البلاد وتعيدها في سياقها الطبيعي لاجتثاث المحتل٬ وتحمل للضفة هِبة إلهية وهَبّة تاريخية تعيدها كمحور للصراع٬ الذي لن ينتهي إلا بزوال المحتل عن الأرض بعون الله٬ فهذه الأرض المقدسة والمروية بأنهار من دماء الشهداء لا تقبل القسمة على اثنين٬ فإما نحن أو نحن.