آراء

إلى الذين سيدفعون الثمن بعد قليل!

سبتمبر 6, 2024

إلى الذين سيدفعون الثمن بعد قليل!


إلى هؤلاء المؤمنين بالسلام، المؤثرين السلامة رغبةً في نيلها على أكمل وجه، المسلمين أسلحتهم وظهورهم وخدودهم لرعاة السلم في المنطقة، إلى هؤلاء الآمنين مؤقتا، الشاعرين براحة الناجين قبل اكتمال العاصفة، الغارقين في نوم عميق بعدما طمأنهم رئيس الحيّ أن بنايتهم مصممة ضد الزلازل، وأن تلك القطعة من الأرض مختارة بعناية، ألم تدفعوا العائدات مقدما عن السنوات الخمسين القادمة؟ أجل، لا تقلقوا، ناموا، أو اسهروا، أو تسلوا، أو ارقصوا، أنتم في أمان، لستم من هؤلاء العامة الذين قد تصيبهم ظواهر الله، أنتم من الخاصة الذين نحفظهم حتى ولو من قضائهم المحتوم.


إلى هؤلاء الذين ظنوا أنفسهم استثناءً من القدر الحتمي، ومن النصيب المكتوب، ومن المصير الجماعي المحكوم به عليهم منذ لحظة الخذلان الأولى، الذين آوَوا إلى جبل يعصمهم من الماء، وظنوا أن لن يبلغ الموج رؤوس الجبال، وهم حمقى يفوتهم أو يتناسون أن الذين أجرى الماء في الأرض، وحسب منطقهم لو كانوا عنه أبعد، فإنهم من السماء أقرب، ولو شاء الله لأغرقهم من السحاب، لكنه لا يعجزه أرض ولا سماء، فإنهم لمدرَكون، قالت لهم غزة اركبوا معنا، ذلك السفين الذي ترونه بأرض قاحلة، وتلك الخشُب التي منها تصنع منصات الصواريخ، وتلك الحبال التي بها تُشد أحمال الأنفاق، وتلك العبوات التي بها يهتك حديد الدبابات، كل ذلك هو الطوفان بعينه، فظن الأسافل أنه ضرب من الجنون، وتركوا غزة وحدها، يتلاطمها الموج من كل جانب، بينما يقضمون هم فواكه جناتهم الزجاجية، وينظرون من علٍ، يقولون بنظرتهم القاصرة، جيدٌ أننا لم نكن معهم، بينما لا يرون البركان الهادر من خلفهم، وأنهم يعيشون فوق أرضٍ لن تلبث طويلًا قبل أن تغرق في حممه، وحينها لن يكون على الأرض أهنأ ممن عاشوا الطوفان وعاش فيهم!


إلى هؤلاء الذين فصلتهم عن غزة كيلومترات، جنوبا وشمالا وشرقا، إلى الذين حمدوا الله فجأةً ذات صباح أن اسم مدينتهم ليست هذه، وأن أبناءهم ليسوا هؤلاء، أوجعتهم قلوبهم وأرقتهم مضاجعهم وأنهكتهم قليلا ضمائرهم، وقالوا ماذا نفعل، وماذا في أيدينا، ولله الشكر أننا عاقلون، نحمل جواز فلسطين المدجّن، المصنوع من جلد بشريّ يسلخ في مكان آخر، الممهور بدماء قوم يرفضون حمل هويات مزيفة، أو نحمل هوية “إسرائيل” نفسها، فيعتبروننا في هذه الأوقات جزءًا من أمنهم، إلا أن نجرؤ على طرق الجدران، وتسلق الأسوار، فيعتبروننا ننتمي إلينا لا إليهم، وهنا تكمن المعضلة، وتتكلم الرصاصة، وتسكن الطلقات في الصدور النبيلة، وصدورنا أدنى بكثير من أن تكون كذلك، ونحن لا نريد لها إلا عيشًا في ظل العلم ذي الخطين الزرقاوين، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا؛ مع أن الأمر المفعول يُقضى الآن يا حمقى، لكنكم تنتظرون قضاءه بعيدا عنكم، عن بيوتكم، عن ممتلكاتكم، عن وظائفكم، عن الضرائب التي تدفعونها لحكومة تنتهك حرمات أرضكم وتقتات من عرق بيوتكم، فلندفعها، ولكن، بالله عليك واعذرني وأنا أشعر بك أخي الغزيّ، لا قبَل لنا اليوم بضريبة أكبر، نجعل الاحتلال يدفعها لنا بدلًا من تلك التي ندفعها له! دعنا نكمل عملية السحب الآن.


إلى هؤلاء الذين ظنوا أنهم بمعزل وراء الحدود، لا يصيبهم ما أصاب غزة يوم تركوها وحدها، فعاشوا في غمراتهم ساهون، يبحثون عن العيش بشكل عام، لا عن العيش الكريم بالتحديد، يسحّج بعضهم للذين يمنعون نصرة البعض الآخر من المخلصين لغزة، بل ويعتقلهم هذا البعضُ الأول إن ساهموا في نصرة أهليهم ولو ببندقية خلف السياج، أو بهتاف أمام الميدان، أو بتفكير خارج الصندوق، ثم إذا لمستَ حرم أحد هؤلاء الحكام المجانين بكلمة فكأنك داخل أدمغتهم مسست الذات الإلهية التي لديهم، وكفرت بأديان “التعريـ.” التي يعتنقونها، ولعنت ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، فمن ذا الذي يجرؤ على لعن نعل الرئيس؟ ومن ذا الذي يجرؤ على سؤال الملك عن سيفه لمَ ليس موجهًا إلا لصدور شعبه؟ ولماذا تدافع جيوشنا الجرارة عن عدونا الجزار؟


إلى هؤلاء ظنوا أنفسهم سقطوا من الحسبة، ونسيتهم المعادلة، وتخفَّوا عن عين الله -حاشاه-، وتواروا من سنن الكون خلف سترات جنودهم المدججين بالسلاح وسياراتهم الرئاسية المصفحة، واختبأوا خلف أنصاف الكلمات وأشباه السطور وسواقط المواقف، واستعرضوا شجاعاتهم الموهومة داخل فقاعات مزيفة من صابون رديء الجودة، واحتالوا على كتب التاريخ محاولين التسلل نحو صفحاته الشريفة وأوراقه الناصعة، قادمين من مزابل المكتبات وسلال مهملات المعاجم والأعاجم، واجتمعوا يوم كتب لهم الاجتماع أخيرا على ترك غزة وحيدةً ذبيحة جريحة شريدة شهيدةً في دمائها، وهم يجادلون بدبلوماسيتهم الباردة أنهم أدوا ما عليهم.


إلى هؤلاء الذين يظنون أنهم نجوا يوم دفعوا ثمن “أمانهم” وقبضوا ثمن خيانتهم لغزة؛ إن غزة أدّت ما عليها وقضت دينها لربها عن عمرها الماضي كلها بآلاف سنواته وعن عمرها القادم كلها بأجله غير المعلوم، أما أنتم، فحين تضع الحرب أوزارها، ستبدأ حربكم من حيث لا تعلمون لتدفعوا ثمن أوزاركم، وتبذلوا من لحومكم الحية -بالذل- ما بخلتم بدفعه -بالكرامة-، لكن حينها لن يكون أمامكم خيار سوى الموت غارقين في نجاستكم، دون أن تمسكم قطرة طهرٍ واحدة!


شارك

مقالات ذات صلة