آراء
حسب الاتحاد الدولي للاتصالات، فإن المحتوى العربي لا يشكل أكثر من ٣٪ من محتوى الإنترنت، وهو ضئيل إن وضعناه في مقارنة مع بقية اللغات التي يتحدث بها أشخاص أقل مثل الهولندية! أين المشكلة إذن؟
اللغة العربية وسوق العمل
في كل مجلس يتحدث فيه الناس عن تعلّم اللغات، تُطرح فكرة أن اللغة الإنجليزية هي لغة العالم، أما العربية فلا جدوى منها في سوق العمل. هذه العبارة قد تبدو في ظاهرها عادية، لكنها تحمل الكثير من الهفوات برأيي.
عندما تحدث الجميع عن أهمية تعلم اللغة الإنجليزية حتى يصبح الإنسان جاهزاً لسوق العمل، أهمل الناس تعلم اللغة العربية، فما هي النتيجة؟ أصبح من يجيد اللغة العربية عملة نادرة في سوق العمل، وتبحث عنه الشركات والمؤسسات! إذ أن الكثير من المشاريع تحتاج إلى من يتقن الكتابة باللغة العربية سواء في أقسام التسويق أو غيره من الأقسام. بل أن الشركات الكبرى التي تدخل إلى العالم العربي تحتاج إلى محترفين يجيدون اللغة العربية من ناحية تواصل أو كتابة أو حتى تفكير.
لا شك أن الإنجليزية نافعة في السوق، لكننا نغفل عن الفرص التي تأتي من خلال تعلم اللغة العربية. ومع كثرة الحديث عن أهمية الإنجليزية في سوق العمل، أصبحت الناس تغفل عن أن إتقان العربية عملة نادرة اليوم، وقد أصبحت ميزة تنافسية تعزز فرص التوظيف وتفتح أبواباً جديدة في مجالات التسويق والإعلام والتواصل وغيرها. والحديث هنا عن إتقان العربية وإجادتها. لذلك، تعلم العربية السليمة تضيف للإنسان وترفع منه حتى في المجال المهني! لكن لنفترض جدلاً أنها لغة لا تنفع الواحد منّا مهنياً، فهل هذا يعني إهمالها؟
هل يحدد سوق العمل اهتماماتنا؟
لو افترضنا جدلاً عدم جدوى اللغة العربية في سوق العمل، هل يعني ذلك أن تعلمها مضيعة وقت؟ مع كثرة الحديث عن تطوير الذات وسوق العمل والمكانة الاجتماعية والمسار المهني، ربما يغفل الإنسان عن الاهتمامات التي لا تنفعه في سوق العمل بشكل مباشر، لكنها تنفعه في أمور أخرى أكثر أهمية.
والسؤال الذي أطرحه هو: هل أصبحنا أتباعاً لسوق العمل دون قصد؟ لا شك أن من سمات الإنسان الطموح أنه يسعى للتطور المهني، ولكن ربما انغمس الإنسان في تطوير نفسه مهنياً وتناسى ما لا يسعه جهله في أمور خارجة عن إطار العالم الوظيفي. فلو أنك علمت أن تعلم اللغة العربية يعني معرفة أكبر للدين، وفهم أعمق للهوية، وتصور أوضح للأفكار، هل تتركها لأنها لن تثري سيرتك الذاتية أمام الشركات؟ وحتى نفهم أهمية اللغة العربية، علينا معرفة ماهية اللغة أولاً.
ما هي اللغة؟
الإجابة الدارجة لسؤال (ما هي اللغة؟) هي أن اللغة أداة تواصل، وهي كذلك، لكنها ليست هذا فحسب. اللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي الوعاء الثقافي الذي يفكر به الإنسان، وهي تحمل الأفكار في مضامين ألفاظها وتراكيبها. اللغة أوسع من كونها وسيلة تواصل فحسب، فهي نافذة إلى عالم عظيم من المعرفة والثقافة. هذه الفكرة تنطبق على الناس بشكل عام، وعلى المسلم بشكل خاص، فالعربية للمسلم هي مفتاح فهم القرآن الكريم والسيرة النبوية. وما زلت أتذكر صديقي الباحث الذي أتى من بريطانيا إلى الكويت لا لشيء سوى تعلم اللغة العربية، وما زال ينبهر بمفرداتها ومعانيها وتصويراتها. هذا لا يعني ترك تعلم اللغات، بل يعني تعلم لغتك أولاً ثم بقية اللغات.
تأثير الشعر العربي
وجدت أشخاصاً اتسموا بمكارم الأخلاق ونبل الصفات، ولمّا بحثت عن سر هذا التطبّع، وجدت أنه اختلاطهم بالشعر العربي، ولم أتعجب! فقد ذكر الفارابي أن الإنسان يقرأ الشعر فترسخ الصور والمعاني في ذهنه، فيستحضر الإنسان مواقف حياتية تتعلق بموضاع الأبيات، ونتيجة ذلك أن تتحرك سلوكيات الإنسان في المستقبل بناءً على هذه المعاني الشعرية التي رسخت في الذهن. لا يقصد الفارابي أن هدف الشعر هو تعليم الأخلاق، فهذا ليس دور الفن بنظره، لكنه يقول أن تعليم الأخلاق نتيجة طبيعية للشعر سواء كان الشاعر يتعمد ذلك أو يجهله. عندما يتعايش الإنسان مع ديوان الحماسة مثلاً، ويقرأ:
وكلهمُ قد نال شِبْعًا لبطنه .. وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه!
فإن معاني الكرم والجود و”الفزعة” غُرست في نفسه، إذ أنه عرف طبائع العرب وأخلاقهم من خلال الاستزادة اللغوية التي ينتجها الشعر عند المتلقي.
مستقبل اللغة العربية
وقد توسعت اللغة العربية ودخلت مصر ثم أفريقيا وآسيا بسبب الهجرات التي حدثت بعد بعثة النبي ﷺ وانتشار الإسلام. وفي عصر الفتوحات تحديداً، أصبح العالم كله يعرف هذه اللغة. وقد عرفها الناس أكثر عندما كان العرب يقودون نهضة العالم، عندما أصبحت العربية لغة العلم. الحديث عن اللغة العربية لا يعني البكاء على الأطلال، أو التنظير المبالغ فيه، أو ازدراء بقية اللغات، بل هو دعوة إلى بناء مستقبل يقوده من يتحدث اللغة العربية، كما كان الماضي يقوده من يتحدثها.