مدونات

نحن الأمهات.. من يُدرك صراعنا الخفي؟!

سبتمبر 3, 2024

نحن الأمهات.. من يُدرك صراعنا الخفي؟!

الكاتبة: آصال أبو طاقية

 

على غير العادة التي ألفناها لسنواتٍ طويلة، توقظك الشمس غصباً عنكِ، لا تلقى عليكِ تحية الصباح، إنها توبخك لجمعِ قواكِ المتهالكة، تخبركِ إن انتصفتُ في وجه السماء فلن تستطيعي اللحاق بشيء، ليست منافسة في مضمارٍ طبيعي، إنه ركض إجباري في مارثون الحياة المستجد منذ 10 أشهر، دون طاقة، دون رغبة، دون وجهة محددة، ودون معرفة بما الذي سيحصل في اللحظة التالية، فنحن أبناء كل ثانية من اللحظة، فالذي تستطيعه الآن قد تفقده في اللحظة الأخرى!

 

كل شيء يحتاج منك العناء، هنا لا ينفع جهد المقل، فالجهد هنا يساوي أرواح، وإن ضَعُفْت فستتهاوى سريعاً خارج الحياة، عليك اقتناص كل فرصةٍ قد تعينك على ملء إناء المياه، شراء سلعةٍ مختفية قد ظهرت خلسةً على بسطة أحدهم، على جمع حطبٍ كي تطعم صغارك، لا فرصة للتراخي عن واجباتك، فأنت كقطعة ليجو في دائرة محكمة، عليك اتزان البعض، وواجباتٍ قد رُسمت بناءً على عدد من اجتمع في مكان النزوح، لا على الرغبة والقدرة، فهذا ترفٌ لا يمكن الركون إليه في زمن آلة الحرب الطاحنة.

 

 لا يتوقف الأمر على هذا النحو، فكل واحدةٍ منا لها معارك أخرى، وأصعبها معركة التفاصيل التي لا تُرى، لكنها تأكل صحتك وقوتك وعقلك أنتِ في معركة حين تُختبرين بين انقلاب زمنين عاشهما أطفالك، عالقةٌ بين ما كان وبين الحاضر الذي يغيب فيه كل شيء، بين كل طلبٍ بسيط يُستحال تلبيته وبين الصور والنعم التي كانوا غرقى في نعيمها، على عتبة هذه المعركة تخوضين جهاد التوضيح والتعزيز والتأميل والترضّى والغرس بكل ما أوتيتِ من صبرٍ وتفهمٍ وحزنٍ ورضا وتوسلٍ لله بالعون والفرج القريب.

 

أنتِ في معركة حين تقاتلين شبح الخوف بخوفٍ صامت كي لا يُهزم الذين يتكئون عليك في أمنهم بعد الله، تصارعين ألم قلبك الذي ينهار بالرغم من كل محاولات تثبيته، لا وقت لالتقاط أنفاسك، عليكِ الوقوف حتى لو فقدتِ أي طاقة لفعل ذلك، طفلكِ يبث حزنه في حجرك “ماما أنا خايفة، حاسة قلبي بده يوقف” “ماما تعبنا” “ماما متى هيروح اليهود من عنا” وعليك التهوين والتطمين ولو كنتِ هشةٌ من الداخل!

 

شهرٌ كامل لم تبرحُ الدبابة باب البيت، لم تفارق طائرات الكواد كابتر عتبته، قصفِ المنزل ونحنُ فيه، منعنا من الخروج، أحرقت البيوت وتركت النيران تتسرب إلينا عمداً، يتخللها قذائف بأعدادٍ تفوق عدد أيام عمر طفلتاي “7 سنوات” و “5 سنوات”، فكان يومنا هنا يمضي بثقل سنةٍ عجاف، مخلدُ البداية ودون نهاية!

 

كل شيء هنا يتقلص، الطعام، الماء، الهواء، النوم، إلا نيران آلياتهم وبنادقهم وطائراتهم ودباباتهم، تزداد كمطرٍ انهمر فلا مهرب منه إلا الغرق ! نُجّينا في وقتٍ آيسنا فيه من النجاة، فوجه الموت قد أطبق فكيه علينا بإحكام، مرت شهور على ذاك الموت البطيء، لم نتعافَ منه حتى اللحظة، لوهلةٍ وحين سماع أي قصفٍ قريب يعود لك شريط أحداثه فتشعرين بانهيارٍ في قلبك، تُخفي ضعفَك كي لا يكبر الخوف أكثر في قلوب أطفالك، لكن عليكَ الاستمرار وكأن شيئا لم يكن!

 

خرجنا منه إلى مجاعةٍ أفقدتنا القوة في أجسادنا وصغارنا، تهاوت مناعتنا، وكشفت معها عن آلامٍ وأمراضٍ لم نرها طيلة حياتنا، لتدخلين معركة الاستشفاء الذاتي، فالمستشفيات خارج الخدمة، رفوف الصيدليات خالية من الأدوية، حتى العلاج البدائي الشعبي مفقود، لا أسباب تأخذينها كي تسندي صحتك وأطفالك، فتقفين عاجزةً من كل شيء إلا طرق باب الله والإلحاح عليه بأن يمن بالشفاء، وأن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به.

 

أنتِ في معركة حين تُختبرين في حبك وسندك، في غيابه لوعة تكوي القلب، لا تعلمين بأي حالٍ هو، غير أنه خلف قضبان تحرق العمر والصحة والعقل، تدارين الدمع خلف جدار قلبك وإن سُكِب دمع الصغار، تجمعين الأمل في قلوبهن البريئة، وتتعهدين سقايتَه ذكرياتٍ وحباً وتعظيماّ لنعمٍ مضت، وجهاداً لاختبارٍ قد كُتب.

 

أنتِ في معركة كل يوم، حين تصافحين الحزن بقلبٍ لا يجد متسعاً له، يؤجله حتى إشعارٍ آخر، إشعار امتد لأكثر من 327 يوماً، تفجعين بفقد هذا وذاك، وتُصعقين برحيل أحدهم، لا وقت حتى للنعي، عليك الاستمرار وإن كان قلبك يقطر دماً، لا مجال للتوقف، عليك الركض طالما الحرب لم تضع أوزارها.

 

هنا، أنتِ لستِ ملك نفسك، أنتِ ملك ظروف الحياة المتقلبة كل يوم في غزة، أنتِ هنا موزعة على عائلتك، أحبابك النازحين في الشطر الآخر من المدينة، نصفك الذي خلف الأسر، أحبابك الذين رحلوا، أطفالك الذين تودين لو تخبئيهم في جنبات قلبك، ضنك الحياة، وضبابة القادم! فأي أمٍ تملك قلبها كاملاً إن كانت تُطحن تحت أضراس آلة الحرب المستعرة في غزة!

 
شارك

مقالات ذات صلة