مدونات
الكاتبة: مريم الفارسي
كيف بدأ ذلك، سألتني الطبيبة بعد أن رحبت بي بلطف زائد لم أعتده، لكني لحظتها أدركت أني فعلا لا أعرف كيف بدأ الأمر، لقد حدث على حين غرة كسيل جارف، ولذلك قلت لها إني لا أذكر.
“صفي ما تذكرين، بم أحسست أو تحسين تحديدا”، قالت بهدوء. قلت: أذكر أن قلبي يخفق بشدة، لدرجة أظن معها أنه سيخرج من فمي، وبعدها يسري خدر في كافة أطرافي، وصدري يعلو وينخفض بينما إحساس بشع بالخوف والانفصال يعتريني، لقد كنت كمن يحتضر أو ربما كنت أحتضر فعلا، لا أعرف ماذا كان كل ذلك.. لكنه صار يتكرر، إنه يتكرر كل صباح كأن جسدي يقيم مأتما قبل أن يقرر مواجهة العالم.
ثرثرت كثيرا قبل أن أبكي بل انتحبت ربما، أكره أن أبكي هكذا ولكني أفعل، كانت جدتي الريفية تخبرني أن النساء القويات، حتى وإن بكين أمام الناس، يظلن قويات، لكني لم أصدقها. حينما كنت صغيرة كنت أظن أن لها عينان من زجاج، لأني لم أرها تبك يوما، كانت تخبرني وهي تقص علي حكايا زمانها، أنها أيام الحرب على الربف المغربي من طرف الاستعمار الإسباني، أكلت الحجر من شدة الجوع والغضب ولذلك صارت بعدها قوية، هل علي أن آكله أنا أيضا حتى تغدو عيناي من زجاج وقلبي من حجر؟
انتشلتني الطبيبة من هذا الحديث الشارد مع نفسي حينما نظرت لي بلطف قائلة: أنت مصابة باضطراب الهلع، ولا شيء يدعو للقلق.. قالتها وهي تنظر إلى عيني. لقد شخصت هذه الدكتورة، الحرب التي أخوضها كل صباح، لقد وضعت اسما لذلك الموت الذي أعيشه كل يوم إنها نوبات الهلع.. لا أدري لماذا شعرت بفرح خفي بعدما شخصت ما بي، على الأقل صرت أعرف ماذا كان كل ذلك، صار لدي اسم لتلك القيامات الصغيرة التي أعيشها فجأة في كل مكان أمام العالم والناس كمن به مس. ماذا نعرف عن هذه القيامات الصغيرة؟
يلخص الأخصائي النفسي وسام الزهار في حديثه إلينا، هذا الاضطراب قائلا إن نوبات الهلع عبارة عن نوبة قصيرة من القلق الشديد، التي تسبب أحاسيس الخوف الشديد أيضا والذي تصاحبه أعراض جسدية مثل تسارع ضربات القلب، وضيق التنفس، والدوخة، والارتعاش، وتشنج العضلات وقد تصل في بعض الحالات حد الإغماء والانفصال عن الواقع. وواصل قائلا إن “نوبات الهلع حينما تحدث بشكل متكرّر وغير متوقع، تصبح اضطرابا، في غالب الأوقات لا ترتبط بأي تهديد خارجي. وقد تستمر من بضع دقائق إلى نصف ساعة، إلا أن أثرها الجسدي والعاطفي قد يظل لساعات أخرى”. وبالرغم من أن الأشخاص الذين يتعايشون مع النوبات، يرون أنها “قيامة صغيرة تحدث لأجسادهم” إلا أن الشفاء منها ممكن ويصفه الأخصائي ذاته بأنه “سهل جدا”.
لكن لماذا تحدث النوبات من الأساس؟ أنا أيضا راودني هذا السؤال حين تشخيصي بالاضطراب.. وجوابا عنه يقول المتحدث إياه ” إنه لاتوجد هناك إجابة مطلقة لكن يمكن أن تداهمك النوبة بسبب إحدى الصدمات القاسية التي تعرضت لها كالفقدان مثلا أو المرور بتجارب سيئة. كما يمكن أن تحدث جراء التعرض للضغوط العصبية والتوتر الدائم”. إلى جانب ذلك هناك من يرجع أصل النوبات إلى عوامل وراثية تنتقل عبر الجينات.
كيف تواجه العاصفة؟ الأخصائي يقول إن “نوبات الهلع ليست من الأمراض التي يمكن علاجها بالدواء” ومضى شارحا أن الأدوية في هذه الحالة تعد مسكنا فحسب، لكن الرحلة نحو التشافي، تبدأ بكل سهولة عند قرار المواجهة. في العادة يقول الناس إنه لا ينبغي لنا أن نقف في وجه العاصفة، لكن العواصف ليست كلها سواء، ثمة عواصف يتحتم علينا ألا ننحني لها، وأن نواجهها بصدورنا المكشوفة، وكذلك ينبغي أن نواجه اضراب الهلع، ولهذا يقول الأخصائي إنه “لا جدوى من الهروب المستمر لأن ثمن ذلك يقتضي العيش مع الخوف الدائم من تكرارها”. وواصل شارحا أن “المواجهة تتم أولا عبر تصحيح الأفكار من خلال العلاج السلوكي المعرفي مع الأخصائيين”.
وفي انتظار استكمال العلاج، ولأن النوبات تحدث بشكل مفاجئ دون سابق إشارات، كأن تداهمك خلال ساعات العمل على سبيل المثال من المهم إخبار المقربين منك بطرق بسيطة للتعامل معك أثناء النوبة. يقول الأخصائي في هذا الصدد “إن أهم ما يمكن أن يقوم به المصاحب لشخص يمر بالنوبة، أن يظل هادئا وأن يتحلى بالواقعية قدر الإمكان”. ويقصد ألا نجعل الشخص المصاب في حاجة دائمة إلى اليد التي تربت على كتفه على الدوام وتخبره ألا شيء سيحدث، ويرى وسام الزهار أنه بالمقابل من ذلك ينبغي حثه على تقبل الواقع من أجل مواجهته في النهاية.
إيمان.. الفتاة التي صعدت الجبل “حينما سافرت بمفردي في الطائرة أول مرة دون أن تنتابني نوبة هلع بكيت عند نزولها كما لم أفعل من قبل، فعلت ذلك لأني أحسست أخيرا بنصري الشخصي.. نصر الفتاة الصغيرة ذات الـ13 ربيعا التي كانت تعاني من اضطراب الهلع دون أن تفهم ماذا كان ذلك” هكذا حكت لنا إيمان التي صعدت بعد سنوات “هذا الجبل الذي هو الهلع”. استغرق الأمر منها سنوات بحالها حتى تتعايش مع الأمر، تقول إنه لا أحد حينما كانت طفلة ثم مراهقة، يصدق ما كانت تمر به.
اهتدت إيمان إلى العلاج السلوكي المعرفي مع طبيبة نفسية بعد أن خاضت طوافا على أطباء الأعصاب والقلب والتنفس وأشياء أخرى دون جدوى. لكن الجزء الأكبر من العلاج تقول إيمان كان البحث والقراءة، تقول إنها التهمت مقالات علمية كثيرة عن الموضوع، إلى جانب إصغائها لحكايا الناس الآخرين الذين عايشوا التجربة ذاتها. تؤكد إيمان التي مرت أكثر من عشر سنوات على تشخيصها بالاضطراب، أن الوعي بها هو الطريق نحو التعايش، وأن الحديث أكثر دون خجل أو خوف أو قيد حول النوبات هو السبيل نحو التحرر.
تقول متهكمة “لقد قررت بعد مضي كل تلك السنين أن هذه النوبات لن تحرمني حقي في السعادة”. ولذلك واجهت إيمان كل المخاوف التي تحرض نوباتها بما في ذلك خوفها الدفين من كل وسائل النقل، وسافرت وحدها عبر طائرة مليئة بالغرباء، حلقت في السماء دون أن “تعيش أي موت صغير”. اليوم، تعرف إيمان نفسها أنها ناجية من النوبات وأنها تذهب إلى خوفها مفتوحة العينين، وتكتب على مواقع التواصل الاجتماعي باستمرار عن هذه الرحلة التي لم تكن سهلة على الإطلاق، و تقول للذين يعيشون الحالة ذاتها “سنصعد في النهاية هذا الجبل”.