تأملات
رجل هزيل البنية، بسيط الهيئة، نحيف الجسم، محدود البدن، له ساعدان لا ينتميان كثيرا إلى كله، منسابان في هدوء، وقوة عظام مجبولة لا عضلات مفتولة، ثم يشتدان عند الساعدين، تبرز عروقهما كلما دنا الطرف من الزناد، تكاد ترى من ملامحه الصادقة التعب الذي خلفها، وله عينان غائرتان بوضوح، تكادان تفصحان عما رأتاه من شدائد، وتشهدان على ما عاشه صاحبهما من صعاب، وتعرفان حق المعرفة ما الذي ظل يدفعه طوال عمره، لأنه قال: لا، ولأنه رفض الـ”نَّعم” جالبة النعم، تحديدًا التي يريدونها جوابًا على سؤال: هل ستسلم سلاحك يا محمد؟ فيقول نعم، هل ستسكت وتنسى ثأرك؟ فيقول نعم، هل ستقبل بكل تلك العطايا لتكون مع المطايا؟ فيقول نعم، هل ستعيش وعينك في الأرض وجسدك في السور ويدك خلف ظهرك ورأسك في التراب؟ فيقول نعم.
ربما من هذا الوصف لن تستنتج أن ترى وحشا كاسرا، ولا مقاتلا هادرا، ولا ماردا ضخما هائلا شديد البنية والصوت والهيئة والكلمة، ولا رجلا يزن جسمه مائة وخمسين كيلوجرام من العضلات المتراكمة منذ سنوات، وإنما شاب بسيط، نحت جسمه كبيوت المخيمات، من الطوب الإسمنتي، في عمارتها المؤقتة، يربط بين قطعه العزم على البقاء، دون التقدم إلى الأمام، وإنما باشتياق العودة إلى الخلف، حيث الديار الحقيقية التي هُجروا منها، فكان ابن حيفا المهجر من قراها إلى طولكرم، هو ذلك المنتمي إلى فلسطين القديمة التي يعرفها من عيون كبار المخيم وتجاعيد وجوه الراحلين، تلك الأرض التي ليس فيها هذا العبث الكبير الذي يسرح ويرمح فوقها، بأعلام تحدها الخطوط الزرقاء.
فكبر أبو شجاع، حتى بلغ ذروة كبر الرجل وكبريائه، يوم صار مقاومًا، في السابعة عشرة من عمره، وهو يراغم الاحتلال ويرغمه، ويمرّغ في التراب أنفه الطويل من التدليس والكذب، حتى اعتقل خمس سنوات كاملة، وكم في عمر الفتى من خمس سنوات حتى يضعن خلف القضبان؟ لكنه يخرج ليواصل ما بدأ، أو يبدأ ما يشكّل فصلًا جديدا من المقاومة، ونوعًا مؤلما من الاختيار الحر، والاستشهاد المبكر، وهو يعلم أنه منذ تلك اللحظة مستهدف، في كل ما يملك، وهو لم يكن يملك إلا حياته، عمره، روحه، أصحابه، رفاقه، وأهله، والبيت الذي تربى فيه، فلم يُبقوا له من ذلكم شيئًا، لكنهم لم يسلبوه اسمه الذي يظل يرعبهم ولو قصوا كل ما حوله، ولو اجتثّوا أصله وفرعه، هو وحده “أبو شجاع” ذلك الجذع المولود من رحم الأرض، الخارج صامدًا في شدة وحزم.
ماذا فعلت الضفة مع ذلك الشاب؟ الناس والبشر والحجر؟ الكل حفظه في عينيه، حماه في صدره، خبأه في بيوته، لكن قومًا لا ينتمون إلى أي ضفة، ولم يعبروا النهر يوما، ولم يعرفوا عذوبته، ولم يرسوا على بر، ولم يتعرف عليهم أي شاطئ، ولم تقبلهم أي أرض، ولم تطقهم أي سماء، ولم يتبناهم أي وطن، وإنما كأن الدنيا كلها تلفظهم، وفلسطين تتقيأهم، وهم الذين يدّعون ملك أمرها، وولاية شؤونها، تحت اسم “سلطة” لا سلطة فيها إلا للعدوّ وعلى أبناء البلاد، طاردوا أبا شجاع، حتى حاولوا اعتقاله، فشلوا فحاولوا اغتياله، فشلوا فحاولوا استنقاذه من قلب أهله وناسه، وهو جريح مخضب بدمائه، ففشلوا في كل شيء، حتى جرّبوا حيلة أخرى، لم يعجز عنها أسافل القوم منذ بدء الخليقة، وهاجموا بها قبله الأنبياء والرسل، ونالوا من شرف أمهات المؤمنين، والصديقات الكريمات العفيفات، وخاضوا في عرض الرجال الشرفاء النبلاء، فأشاعوا عليه الشائعات، وصوّروه في كل صور الفجور.
تأثر كثيرا، لا أنسى حزنه البادي في حشرجته، ولا عاطفته المشنوقة على أحبال صوته، ولا غصته التي تكوي كل حرف خارج من حلقه، وهو يتحدث عما كالوه له من اتهامات، وما أشاعوا عنه من أكاذيب، وما ادّعوه من زور وبهتان، وإن الرجل لا يملك أثمن من سمعته، فطعنوه في كل شيء، ليس لشيء سوى أنه فضحهم، لأنها بضدها تعرف الأشياءُ، فأن يوجد مقاوم يعني أن مضاده عميل، وأن يبرز مقاتل يعني أن يبرز الخونة في المقابل، وأن يرفع الرجل هامته، سيفضح الذين قبضوا مقابل خفض هاماتهم، بينما يؤرجح المحتل قدميه على جنبي مطيّته، وكان أبو شجاع في المقابل واقفًا يتقزز من المشهد، أي عُهر ذاك الذي أتاه هؤلاء حتى يركبهم راكبهم؟ فما بالك لو كانوا هم من شبّكوا له الأيادي وحنوا له الظهور والخصور ليصعد ظهورهم؟
حتى سالت دماء أبو شجاع في ذلك الفجر الحزين، المسجَّى بدماء الأولياء، بعد أذان مبحوح يخرج من بين صدعي القلب المفطور، وهو يودع فتى في السادسة والعشرين من عمره، ضرب مثالا حيا جديدا في البنية الحقيقية للإنسان، كيف يكون نحيفا وحنيفا في الآن ذاته، كيف يكون بسيط الهيئة عظيم الشكيمة، وكيف يكون هزيل الخارج مفتول الداخل، أمام هؤلاء الذين حملوا الأثقال على سواعدهم بينما حملوا الهوى في قلوبهم، ولم يستخدموا عضلاتهم إلا في حمل العدو فوق أكتافهم وأردافهم، وإعانة المحتل على قتل الصادقين، كيف يكون الإنسان أبا شجاع وهو صغير الحجم عظيم المقام، أمام قوم ضخام، لا يُعرف الذي على وجوههم من فرط جبنهم ونذالتهم ودناءتهم.. لثامٌ أم لجام؟
مضى أبو شجاع ليعرّف لنا أخيرا فن بناء العضلات، أن كل ما تراه على الأكتاف والظهور والأعضاد والأقدام والسيقان لا يساوي شيئًا إذا ما أحاط بقلب مرتعش ولسان جبان.. فلا عضلة أولى بحمل الأثقال من عضلة القلب.