مدونات

مذكرات نازحة (2)

أغسطس 30, 2024

مذكرات نازحة (2)


صوت المعدة أعلى من صوت المدافع..


أعود بذاكرتي لليوم الأول من حرب الإبادة، أعود للسابع من أكتوبر، يوم العُبور، اليوم الذي لا يليه يوم واحد أكثر إشراقاً منه! هو اليوم الذي لا ندم عليه ولا أسف، ضريبته كانت كبيرة، غالية لكنها تستحق. ثمنه البيوت المُدمرة، أشلاء أحبتنا، نزوحنا المُتكرر، تقسيمنا لجنوب وشمال! لكن الثمن الأقسى حين دفعناه من أمعائنا الفارغة! ومازلنا ندفعه في شمال قطاع غزة.


صوت المعدة الفارغة أقوى من صوت القذائف، صوتها يفضح كذب العالم المُزيف، العالم الذي يدّعي تحضّره وإنسانيته! “إنسانية كاذبة، أمام المعدة الفارغة”. أتذكر جيداً كيف وقفتُ بالقرب من السلم أنتظر شخصاً أعرفه وعدني بأن يُحضر لي “رغيفاً” من عائلة زوجة خاله! وقفتُ بلهفة وخجل! لكنني لا أملك خياراً آخر أمام صوت معدتي الفارغة ومعدة طفلتي!


لا يتوفر معنا دقيق “الطحين الأبيض” بعد نزوحنا من المنزل وهروبنا تحت النار! أذكر في مرة مشيتُ على أقدامي لأكثر من 3ساعات أبحث في الأسواق عن طعام (أرز، دقيق، معكرونة). ولم أجد ما أعود به لعائلتي. عُدت إليهم أحمل علف الحيوانات! أذكر كيف استقبلتني أختي الكُبرى وبكت!


كانت هذه المرة الأولى التي أراها تبكي، كانت تبكي جوع أطفالنا وقلة حيلتنا. هذه المرة التي تفقد بها أختي قوتها، وهي التي لم تنهار يوما! أراها أمامي تبكي بصوتِ عالِ، تكومنا حولها نواسي جوعنا وجوع أطفالنا.


ثم توجهنا نحو المطبخ نحاول صنع كُرات من علف الحيوانات بعد أن عجناه بالماء ووضعنا عليه البهارات. ثم وضعنا في زيت الطعام! طعمه مُر علقم! لكنه مُمتليء بالكرامة!


كرامتنا نحن وحدنا.. كرامة كل من تبقّى ولم يترك المكان. كرامة سيكتبها التاريخ بحروف من نور، لكن على التاريخ ألاّ ينسى أن يُدون أيضاً شعورنا بالقهر وأن شعور الخوف من الموت يهزمه شعورك بالجوع. وأن المعدة الفارغة موتُ صغير، وأن لعنة جوعنا ستظل تُطارد هذا الجيش النازي، وكل المُتفرجين.


أمام مائدة طعامك وحين يلتف من حولك أطفالك، لا تنسى أنني أدفع ضريبة جُبنك، وأن الله يرى ويسمع..


أيها العربيّ سيرافقك عار صمتك ما حييت!

ستطاردك دماؤنا وأصوات معدتنا الخاوية..

دموع أطفالنا ستقف بينك وبين الله في يوم الحساب!

ليشهد الله أننا صبرنا وأننا رضينا وأننا لن نسامح ولن نغفر.


“ما عِندَكُم يَنفَدُ وَما عِندَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجزِيَنَّ الَّذينَ صَبَروا أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ” [النحل: ٩٦]


شارك

مقالات ذات صلة