سياسة
في يوم الجمعة الموافق لتاريخ 23 أغسطس 2023، أعيد خلط أوراق النفوذ الروسي في القارة الأفريقية بوفاة يفجيني بريجوزين، الشخصية البارزة والغامضة التي شكلت حتى ذلك الحين أحد أبرز محاور العمل العسكري الروسي خارج حدودها. لكن من رماد هذا الانفجار الكبير السياسي والعسكري، نشأت مبادرة جديدة ذات ملامح مختلفة، أُطلق عليها اسم “فيلق أفريقيا”، وهي تُعد أحدث أدوات روسيا لتعزيز التأثير الروسي في القارة.
خلال زيارته الأخيرة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، كان بريجوزين مرافقاً بمسؤولين من الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، وذلك قبل أيام من تحطم طائرته المشؤوم في روسيا، مما طرح تساؤلات حول ما إذا كان قد فقد السيطرة على إمبراطوريته قبل مماته أم لا؟ هذا التحول الاستراتيجي أتى في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها بريجوزين ضد الكرملين، حيث شرعت وزارة الدفاع الروسية في تأمين قبضتها على فاغنر بشكل أكثر فاعلية.
ولاحقًا في إطار سعيه لتقليص نفوذ بريجوزين، قام الرئيس فلاديمير بوتين، بتفكيك الأنشطة الرئيسية للمجموعة، موزعاً مهامها بين أنشطة فاغنر القتالية، الحملات الدعائية المعروفة بمشروع “لاختا“، والأعمال التجارية لشركة “كونكورد” الروسية.ومنذ وقتذاك، تصدر الكرملين المشهد في العلن. واختفت اللقاءات الخفية التي كانت تُعقد في موسكو، باماكو، وبانغي، وغيرها من مدن حلفائها. وهكذا وانطلاقًا من سبتمبر من العام 2023، باتت تحركات الوفود العسكرية الروسية في القارة موضوعاً للنقاش العلني.
وهكذا بعد مرور عام على الحادث المأساوي الذي راح ضحيته بريجوزين وأوتكين، لم تختف فاغنر من المشهد، بل تحولت إلى بنية تحتية أكثر تعقيدًا وشمولًا. بدعم من كبار الضباط المقربين من الكرملين، تشكلت هيكلية جديدة تتجاوز العمليات العسكرية البحتة إلى أدوار استراتيجية تجمع بين السياسة والاقتصاد.
يعود الفضل في صياغة هذه المبادرة، ليونس بك يفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي، وأندريه أفيريانوف، الجنرال في الاستخبارات العسكرية. كما كان لفلاديمير أليكسييف، الذي يعتبر العقل المدبر للعديد من عمليات الاستخبارات دور بارز في التشكيلة، لتسفر الجهود عن تأسيس ما سيطلق عليه لا حقًا “فيلق أفريقيا” بوصفه جسرًا جديدًا يربط موسكو بالعواصم الأفريقية.
وفي الأشهر القليلة الماضية، عمل هؤلاء المسؤولون على تعميق العلاقات مع القادة الأفارقة، ما أدى إلى توقيع اتفاقيات جديدة في مجالات الدفاع والتعدين. هذه الاتفاقيات تظهر محاولة روسيا لتقديم نفسها كشريك فعال وموثوق به يختلف عن النهج الغربي الذي ينظر إليه البعض كاستمرارية للاستعمار، فيما تعلن روسيا عن تنامي نفوذها بوصفها أكبر من مجرد توسع استراتيجي، بل هوجزء من محاولة أكبر لتقديم نموذج تعاون يحترم سيادة الدول الأفريقية ويعزز التعاون على قدم المساواة، وفقًا لما تروج له “وكالة المبادرة الأفريقية”، التي بدأت تغطيتها لأنشطة فيلق أفريقيا منذ إطلاقها في سبتمبر 2023.
من السرية إلى العلن
في خضم التحولات الجذرية على الساحة الأفريقية، تبرز عملية إعادة تنظيم واسعة النطاق قادتها روسيا لاستعادة وتوسيع نفوذها العسكري والدبلوماسي والاقتصادي. فبعد حقبة تسيدت فيها مجموعة فاغنر المشهد بنهج العمليات السرية والتدخلات غير المعلنة، ينبثق اليوم “فيلق أفريقيا”، ساعيًا لرسم معالم جديدة للتأثير الروسي في القارة بأسلوب أكثر شفافية ورسمية.
هذه العملية، التي تندرج تحت إشراف وزارة الدفاع الروسيةمباشرةً هذه المرة، تتجاوز مجرد كونها إعادة تسمية للأدوار التي تُلعب خلف الستار؛ بل تُمثل تحولًا استراتيجيًا يعكس رغبة الكرملين في إضفاء الطابع الرسمي وتحمل المسؤولية المباشرة عن مبادراتها في أفريقيا. وهو ما أوضحه جينابو سيسي، الباحث في مؤسسة البحوث الاستراتيجية بباريس في مداخلة له على قناةٍ فرنسية قائلًا، “كان النظام السابق يعتمد على الإنكار المعقول، ولكن الآن يبدو أن الكرملين يتخذ خطوات جادة نحو تحمل المسؤولية المباشرة عن أفعاله في أفريقيا. نحن أمام نموذج تشغيلي جديد يعيد الكثير من العناصر السابقة، ولكن ببنية أكثر تنظيمًا ووضوحًا.” ويضيف سيسي: “المشهد يتغير تدريجيًا، فالقيادات الجديدة في فيلق أفريقيا تشمل عددًا لا يحصى من الأعضاء السابقين في فاغنر، ما يشير إلى استمرارية، ولكن تحت مظلة أكثر تنظيمًا واعترافًا.”خاصة في دول مثل جمهورية أفريقيا الوسطى.
وتبدو روسيا -هذه المرة- ماضية بثبات نحو إعادة تأطير نهجها السابق في التدخل الأفريقي، الذي كان يشوبه الكثير من السرية والإنكار. اليوم، وتحت إشراف وزارة الدفاع الروسية، تتشكل ملامح نظام جديد يتجه نحو استعادة وتوسيع النفوذ الروسي بشكل أكثر فاعلية وشفافية، هذا الكيان الجديد لا يمثل فقط تغييرًا في الأسماء أو الواجهات، بل يعكس تحولًا جوهريًا نحو إضفاء الشرعية والرسمية على العمليات التي كانت تُنفذ في الخفاء.
تجدد الأدوار وظهور قادة جدد
في تطور ملفت، لا تزال الأصداء السابقة لفاغنر ترن في أروقة السياسة والمعارك في أفريقيا، حيث تستمر الشخصيات الرئيسية في المجموعة بلعب أدوار فاعلة تحت مظلات جديدة، مع ارتقاء في المناصب كشخصية مثل ديمتري سيتي، الذراع اليمنى السابق لبريجوزين، الذي يدير الآن عمليات فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى بكفاءة متجددة، وإيفان ماسلوف، الذي كان يرأس عمليات المجموعة في مالي ورغم العقوبات الأمريكية، يظل مرسخًا في موقعه بباماكو.
إضافيًا، يكشف الواقع أن استدعاء الكوادر للانضمام إلى الفصائل شبه العسكرية يتسارع بشكل ملحوظ عبر قنوات تيليجرام التابعة لفاغنر وفيلق أفريقيا، مما يؤكد على أن النظام القديم، رغم كل التحولات، لم يخمد جذوته بعد.
عطفًا على ما سبق، برز في الأفق شخصيات جديدة تتبوأ مراكز القيادة في هذا السياق المتجدد. يتقدم هذه القيادات كونستانتين ميرزايانتس، القائم بأعمال شركة ريدوت العسكرية الخاصة، مانحًا الشركة دفعًا لتعزيز تواجدها على الساحة الأفريقية ومنافسة النفوذ التقليدي لفاغنر. تعكس مشاركته الفعالة في الوفود الروسية التي زارت القارة قبل وبعد وفاة بريجوزين طموحًا واضحًا وتوجهًا نحو تأكيد الحضور الروسي.
وفي الوقت نفسه، تم توثيق حشد قوات ريدوت في القارة، بما في ذلك تجنيد عبر قنوات تلغرام لملء المناصب العسكرية المستحدثة. كما أبدت الوحدات المعروفة باسم “لواء الدب”، تحت قيادة فيكتور يرمولاييف، حضورًا ملحوظًا في بوركينا فاسو، وفقًا لتقارير إقليمية، ما يشير إلى تعزيز النشاط العسكري الروسي في القارة بصورة متزايدة.
تجاذبات مع القوى الغربية
رغم إعلان توزع فيلق أفريقيا الروسي عبر خمس دول رئيسية: ليبيا، بوركينا فاسو، مالي، جمهورية أفريقيا الوسطى، والنيجر، أظهرت أدلة –وفقاً لمصادر متعددة- وجودهم في دول أخرى، كالسودان، والموزمبيق ما يدل على الانتشار الواسع لهذه القوات.
فوفقاً لمصادر أمنية غربية، حين انسحبت القوات الروسية منليبيا والسودان بسبب الهجوم الروسي على أوكرانيا وتلاها الحرب الأهلية السودانية، استغلت الولايات المتحدة الظروف المتقلبة لتعزيز علاقاتها مع حميدتي زعيم ميليشيا الدعم السريع في السودان، محاولةً منع روسيا من تأسيس قاعدة على البحر الأحمر.
وكرد فعل على ذلك، قام وفد رسمي من حكومة السودان برئاسة عبد الفتاح بزيارة موسكو، في يونيو من العام الجاري، في محاولة لتعزيز العلاقات واستكشاف إمكانية تقديم قاعدة عسكرية لروسيا على البحر الأحمر كتعويض عن القرب الأمريكي من قوات الدعم السريع.
أما في أفريقيا الوسطى، وعلى الرغم من النجاحات الأمريكية المؤقتة في تعزيز العلاقات مع قوات الدعم السريع، لم تتمكن واشنطن من إحداث تغيير جذري في توازن القوى في بانغي. حيث حاولت شركة بانكروفت جلوبال ديفيلوبمنت الأمريكية التقارب معبانغي وعرضت خدمات مماثلة لتلك التي تقدمها فاغنر لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، فوستين آركانج تواديرا، لكن حتى الآن لم تثمر هذه المساعي عن تعاقدات ملموسة.
والحالة نفسها في ليبيا، فعلى الرغم من الانسحاب الجزئي للقوات الروسية خلال الأزمة الأوكرانية، ومحاولة القوى الغربية -بقيادة أمريكا- إضعاف فاغنر في ليبيا، كشفت صور أقمار صناعية راهنة عن عودة روسيا بشكل أكبر. ففي بواكير عام 2024، عادت القوات الروسية عبر الفيلق الأفريقي، مما أعاد ترتيب القواعد العسكرية في طبرق، الخادم، والقرضابية لتعزيز الجسر العسكري الروسي الشامل الذي يخدم في تعزيز النفوذ الروسي في المنطقة.
مسار جديد للمنشقين السابقين في فاغنر
كما برزت في الأروقة المتقلبة لحرب المعلومات، ظاهرة المنشقين السابقين عن فاغنر، والذين يتخذون الآن أدواراً جديدة في الساحة الإعلامية. مثلاً آنا زامارييفا، المسؤولة السابقة في شركة فاغنر، تعيش الآن فصلاً جديداً في مسيرتها المهنية كنائب رئيس تحرير لمجلة المبادرة الأفريقية، والتي يدير تحريرها أرتيم كورييف، المعروف بارتباطاته الوثيقة مع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي. ومن بين الأسماء البارزة الأخرى التي انشقت عن فاغنر، فيكتور لوكوفينكو، الذي كلفته موسكو بمهمة في القارة تهدف إلى تعزيز الحملات الدعائية الروسية. لوكوفينكو، الذي قدم نفسه لفترة كمبعوث خاص للمبادرة الأفريقية، شارك في ترويج مجموعة من الأفلام الدعائية لفاغنر في مدغشقر وجمهورية أفريقيا الوسطى.
الخاتمة:
في هذه التحولات، تؤكد روسيا مرة أخرى على تطوير استراتيجياتها الأمنية، وكذلك الحربية النفسية والدعائية، مستخدمة الشخصيات التي كانت تشغل أدوارًا ميدانية في فاغنر لتقديم وجهها الإعلامي الجديد في أفريقيا. هذه التطورات تعكس نهجًا روسيًا معدلاً كان في السابق يستند إلى “الإنكار المعقول”، وهو الآن يتحول إلى اعتراف أكثر صراحة ومشاركة رسمية في الأنشطة الجارية على الأرض، مما يعيد تشكيل المشهد الإعلامي والأمني الأفريقي.
هذا النموذج الجديد لا يمثل فقط تغييرًا في التكتيكات الروسية، بل هو تعبير عن استراتيجية أشمل تسعى لإعادة تعريف دور روسيا في القارة، عبر التفاعل المباشر والمعلن مع الدول الأفريقية. وفي ظل هذه المستجدات، يبرز سؤال جوهري: هل هذه الخطوات مجرد استمرارية لنهج فاغنر السابق، أم أنها بداية لعهد جديد يهدف إلى إعادة صياغة مفاهيم الأمن والتأثير الروسي في أفريقيا؟ لكن المؤكد منه راهنًا، أن هذه التطورات سيخلق حتمًا تقاطعات مزعزعة مع الشركات الأمنية الغربية التركية والخليجية في القارة، مما قد يؤدي إلى تنافس على أساس قواعد لعبة غير مستقرة ومجهولة كما هو الحال دائمًا مع المؤسسات الأمنية الخاصة، وبالتالي سيؤدي إلى مزيد من غياب المساءلة وتزايد الدمار في الأرواح والمصالح.