مدونات
في يناير من العام القادم، ستعقد جلسة “الاستعراض الدوري الشامل” في الأمم المتحدة بجنيف، وتعد هذه الجلسة هي إحدى آليات الأمم المتحدة لحماية حقوق الإنسان في الدول الأعضاء، إذ تعتمد هذه الآلية على استعراض ممارسات حقوق الإنسان في جميع دول العالم الأعضاء بالأمم المتحدة مرة كل أربع سنوات، استنادًا للتقارير الواردة للأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها حول حالة حقوق الإنسان في الدولة موضوع الاستعراض، وبناء عليه تقدم الأمم المتحدة للدولة محل الاستعراض مجموعة من التوصيات التي تعلن الدولة قبولها وتلتزم بتنفيذها حتى موعد الاستعراض التالي.
في ضوء هذه الجلسات، تستعد كل من المنظمات الحقوقية والمدنية المصرية وغيرها في إعداد تقاريرها حول حالة حقوق الإنسان في مصر، وفي المقابل تستعد الحكومة المصرية، كعادتها، لنفي وإدانة ما تقوله المؤسسات من تدهور حالة حقوق الإنسان في مصر. لكن هل تهتم الحكومة المصرية بهذه الجلسة كما كانت تهتم من قبل؟ مثَّل هذا الاستعراض ضمن الجلسة الماضية، والتي انعقدت في عام 2019، فضيحة للنظام المصري لما وضّحته تقارير المنظمات الحقوقية من انتهاكات في جميع ملفات حقوق الإنسان، الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والوضع المعيشي شديد السوء في السجون المصرية، ناهيك عن قضايا أُخرى تتمثل في الحق في حرية التعبير والتجمع والممارسة السياسية وقضايا اللاجئين وغير ذلك من ملفات حقوقية واجتماعية اقتصادية وعمرانية، وقد خرجت الجلسة بـ 375 توصية أممية للحكومة المصرية حول تحسين أوضاع حقوق الإنسان.
منذ بضعة أيام، أصدرت عشر منظمات حقوقية بيانا مشتركا، وهم؛ مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، جمعية عنخ، المنبر المصري لحقوق الإنسان، لجنة العدالة، المفوضية المصرية للحقوق والحريات، مركز النديم، الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان، منصة اللاجئين في مصر، ايجيبت وايد، مؤسسة دعم القانون والديمقراطية، إلى جانب منظمتين فضلتا عدم ذكر اسميهما خوفًا من الأعمال الانتقامية.
وفي بيانهم أوضحوا أنهم قدموا للأمم المتحدة تقريرا مشتركا، ضمن آلية الاستعراض الدوري الشامل، حول حالة حقوق الإنسان في مصر، وذلك في إطار الإعداد للدورة الرابعة للاستعراض الدوري للملف الحقوقي المصري أمام الأمم المتحدة في يناير القادم. وفي تقريرهم، المعتمد منهجيته على الرصد والتوثيق، أوضحوا أنه خلال الخمس سنوات الماضية، أي من بعد انعقاد جلسة الاستعراض الأخيرة، حاولت الحكومة المصرية طمس الحقيقة المزرية لحقوق الإنسان في مصر.
إذ حاولت الحكومة المصرية، عبر السنوات الماضية، تفعيل وتأسيس لجان ومبادرات واستراتيجيات، مثل إعادة تفعيل لجنة العفو الرئاسية، واعتماد الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، والإعلان عن حوار وطني. كلها لم تنتج عن أي تطور حقيقي لحالة حقوق الإنسان، بل كانت من أجل تلميع وجهها السياسي، وادّعاء أنها تعمل بشكل جاد في ملفات حقوق الإنسان، لكن عشرات الآلاف من الانتهاكات الموثّقة التي حدثت بحق المواطنين المصريين، فضحت هذا الادعاء. لكن كعادة الحكومة المصرية في نفي وتكذيب كل ما ينتقد سياساتها، فهي أيضا تسعد لإعداد التقارير التي تحاول من خلالها إثبات مدى جديتها في تحسين حالة حقوق الإنسان، فقد ناقش الحوار الوطني، الذي صنّعه النظام من أجل تلميعه، كما تفتيت وإضعاف المعارضة المصرية، خلال جلساته الماضية قضية مدة الحبس الاحتياطي للسجناء، وهى عامين فقط، ومدى إمكانية تقليل هذه المدة، حتى لا يكون السجين رهينا للسجن الاحتياطي لسنوات طويلة، دون أن تثبت إدانته.
هذا أيضا ما ناقشه مجلس النواب المصري التي شكّلته السُلطة السياسية، بشكل جيد ومختار، منذ أيام، فيما يتعلق بمشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية، وما يشمله من مدة الحبس الاحتياطي، كما التدابير الاحترازية المتعلقة به، وأيضا بنود متعلقة بحقوق المُتهم ومحاميه أمام النيابة العامة ومحاكم القضاء، لكنها أيضا مناقشات لم تؤد إلى إقرار قانون ينصف المواطن المصري، بل يزيد من مأساته وإهدار حقه في التعامل مع المؤسسات الأمنية والقضائية في مصر.
هنا المُشكلة ليست حتى في تشريع القوانين التي تُنصف المواطن، بل في وجود ضمانات كافية تُلزم الجهات المعنية بتنفيذ هذا القانون، لأنه على سبيل المثال، مدة الحبس الاحتياطي والتي تقدر بعامين، لا تلتزم بها لا الجهات القضائية ولا الأمنية، فالقضاء مستمر في تجديد حبس من تخطوا عامين من الحبس الاحتياطي، مثل المترجمة مروة عرفة، التي تخطت 4 سنوات رهينة الحبس الاحتياطي، وحتى في حين الإفراج عنهم، لا تلتزم الأجهزة الأمنية بقرارات الإفراج، بل تُخفي المواطنين في المقرّات الأمنية، وتُعيد تدويرهم على ذمة قضايا أُخرى لسنوات أُخرى، فيما يعرف بـ “التدوير”، وقد حدث هذا مع الآلاف من المعتقلين السياسيين في مصر، على مر السنوات الماضية.
ومن خلال استمرار الحكومة المصرية، ورأسها السياسي الأعلى، المتمثل في رئيس الجمهورية، والذي يُدير بعقليته الأمنية ملفات السياسة والاقتصاد وملفات أُخرى، يتضح أن العقلية المترسخة في التعامل مع المجتمع المصري هي عقلية شديدة القمع، وغير مستعدة لمراجعة ممارساتها تجاه المواطنين، سواء في قضايا السجناء السياسيين أو حتى قضايا تخص العدالة الاجتماعية وحرية التعبير، أو حتى فيما يخص اللاجئين في مصر، فقد شمل القمع غير المصريين الموجودين في مصر، من خلال احتجازهم وتعذيبهم وترحيلهم قسرا إلى بلادهم. لكن الضغط التي سببته، عبر السنوات الماضية، تقارير المنظمات الحقوقية والمؤسسات الأممية على الحكومة المصرية والتي فضحت ممارساتها القمعية، تدفع الحكومة، وعقلها السياسي، إلى اتخاذ المناورات، وإنشاء المبادرات والاستراتيجيات والسجون الجديدة، كي تقول أنها بالفعل تراعي ملفات حقوق الإنسان، وتسعى إلى تحسين أوضاع المواطنين في مصر.
ربما كانت الحكومة المصرية، تفعل ما تفعله خلال السنوات الماضية، من أجل تحسين وتلميع صورتها، لكن هي الآن، وفي الظرف العالمي الحالي، الذي يُرتكب تحت ظله إبادة جماعية لأهل غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، أمام مسمع ومرأى العالم والمجتمع الدولي ومؤسساته، ولم يستطع أحد خلال قرابة إحدى عشر شهرا وقف هذه الإبادة. لذا، هذه المرة، وخلال الاستعراض الدوري الشامل، لن تهتم الحكومة المصرية سوى بالدفاع عن نفسها أمام الجميع، كما ستهتم بمعاقبة الأفراد والمؤسسات التي وضحت من خلال تقاريرها، الحالة المزرية لحقوق الإنسان في مصر . لن تهتم بالتقارير الحقوقية أو التوصيات الأممية، ولا حتى بإدانة البيت الأبيض، أو الخارجية الفرنسية أو البريطانية أو الهولندية أو الاتحاد الأوروبي لمسألة حقوق الإنسان في مصر، كما كان يحدث سابقا، لأن هذه الدول وإداراتها أيدت، بل منها من شارك في إبادة جماعية ترتكب في الوقت الحالي، بل وساعدوا النظام المصري الحالي، في أزمته الاقتصادية من خلال القروض والمنح والمساعدات المادية والعسكرية، لضمان اتخاذه موقفا لا يضر بإسرائيل خلال حربها الإبادية على غزة، لذلك لا يعني للنظام بالا ولا لأبواقه الإعلامية مهاجمة المنظمات الحقوقية في الوقت الحالي، على عكس ما كانت تفعله في وقت سابق.