سياسة

لبنان وفلسطين: بازار الوهم المفتوح

أغسطس 28, 2024

لبنان وفلسطين: بازار الوهم المفتوح


تطول القائمة وتطول بأنواع مبادراتها وألوان صفقاتها واقتراحاتها، ثمة أصناف قليلة الدسم بالإغراءات وأخرى اكتفت بمنكهات لا طعم لها ولا رائحة، وغيرها الكثير الكثير من ملفات وصيغ حلول حجزت مقاعدها على مستديرة بيع الأوهام.


على هذا النحو عبر العرب ومعهم فلسطين عقود الانتظار، فآثر بعضهم الرضوخ حيث لا حول لهم ولا قوة، وآثر آخرون العناد والممانعة رافضين الارتهان لبازار الأكاذيب وتلقي باقات الوعود على مائدة الدول.


في نظرة سريعة على أرشيف مفاوضات الشرق الأوسط ومحاضرها المكدسة في أدراج اللاعبين الممسكين بمفاتيحها، يظهر جليا بأن العرب وكلما توهموا استعادة بعضا من حقوقهم المسلوبة عادوا إلى المربع الأول وإلى رحلة انتظار طويلة تتعثر جولاتها عند محطات التسويف والمراوغة في عملية خداع دولية تستمر بإيقاع بطيء دونما جدوى.


ولعله من اليسير على ذاكرتنا انتقاء ذلك اليوم الذي أعلن فيه حاييم رامون نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها إيهود أولمرت ضرورة تقسيم القدس بين إسرائيل والفلسطينيين في إطار تسوية دائمة للصراع، وهو ما اعتبره العرب حينها خطوة متقدمة إلى الأمام سرعان ما ذهبت أدراج الرياح الإسرائيلية مع استقالة أولمرت بتهم فساد، أعقبت حربه على لبنان في تموز عام 2006، وحيث يفرض بطريقة أو بأخرى سيناريو إلغاء العهود والمقررات والذهاب إلى البداية من جديد مع رئيس حكومة آخر، فلا علاقة للخلف بما قام به السلف!.


وهكذا يعود العرب للعنة البحث عن وهم السلام فيما يتلاعب الآخر بمسار عبثي طويل، وليس أسهل من تقديم الوعود والانقلاب عليها باستقالة الحكومات المتعاقبة، وبين حكومة وأخرى حصد المزيد من التنازلات العربية المجانية تحت عناوين المرونة وبوادر حسن النية.


كذلك ليس عام ١٩٧٨ ببعيد حينما عقدت مصر قرانها مع الصلح الإسرائيلي في كامب ديفيد علها تفتح صفحة مشرقة في كتاب الصراع القائم، فما كان من إسرائيل إلا أن أهملت الوثيقة المتعلقة بشق التفاوض بشأن القضية الفلسطينية فيما خسرت أم الدنيا الكثير من رصيدها السيادي والمؤثر في المنطقة والإقليم. 


ثم تابعت حمائم السلام الضالة طريقها فحلقت في سماء أوسلو عام ١٩٩٣ بعد تفاهمات ومشاورات بين الثنائي إسحاق رابين والراحل ياسر عرفات، كما شهد عهد رابين الدسم بالمصافحات والابتسامات اتفاق وادي عربة مع الأردن إلى حد حصول الرجل على جائزة نوبل للسلام المزعوم تقديرا لجهوده المضنية!.


 ثم اغتيل رابين واغتيل معه ما اعتبر إنجازا ثم عود على بدء حتى انتهى المطاف بعرب صافحوا ووقعوا وطبعوا منقلبين على أبسط الحقوق والثوابت التي طالما اعتبرت مقدسة وخطا أحمر لا يمكن تجاوزه.


وإذا كانت اللاءات الثلاثة الشهيرة قد تحولت إلى الكثير من النعم، فإن للحجارة والانتفاضة ضجيجها حيث علا صوت المقاومة كخيار لا بديل عنه، وهو الدوي الذي سمعت أصداؤه في لبنان مع تشكيل حركات المقاومة المتعددة وإسقاط ما عرف باتفاق السابع عشر من أيار بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل، والذي أراد وقتها إخراج لبنان من دائرة الصراع وحله بشكل كامل من أي التزام يتعلق بالحق الفلسطيني إلى جانب التفريط بالكثير من الحقوق اللبنانية المتعلقة بالأرض والسيادة لا سيما في الجنوب الذي رزح مطولا تحت احتلال القوات الإسرائيلية.


 هذه السردية التي اختصرت شيئا من عقود التفاوض وجلساته السرية والعلنية كانت النفق المظلم والطويل الذي تاهت في عتمته الكثير من الحقوق المتجذرة بالأرض والتاريخ والمقدسات.


 لكن نفق الوهم هذا سرعان ما أحيل أنفاقا حقيقية على أرض الواقع حفرتها أيد من نور ووطأت ميدانها أقدام مقاومين رفضوا طرق الخنوع ودهاليز الاستسلام. وما كان زمنا للحجارة وزجاجات المولوتوف قذفت به موجات صواريخ ونيران غضب كاسرة للجمود وللدائرة المقفلة بمفاتيح الإسرائيلي والراعي الأمريكي.


وكان بديهيا أن يخرج جيل تغذت مخيلته على مشاهد الحروب والمجازر وعلى أضخم عملية خداع دبلوماسي أمريكي وغربي ليتمرد على ضياع الحق وسياسات الظلم والتنكيل والقتل الجماعي والاعتقال التعسفي والحصار وتدنيس المقدسات، فالحضارة أثبتت وبقوة أنها بريق بألوان وقشور مزركشة تخفي خلفها وجها قبيحا بملامح التوحش والإجرام، ومن أخطأنا وراهنا على دورهم يوما ما أداروا ظهورهم وغسلوا أيديهم التي صافحت ووقعت معاهدات الود والوئام على حساب الدماء وأشلاء الأطفال ووجوه الثكالى والمستضعفين.


وكأنما الجميع دخل في حالة بحث عن فرصة للهروب من جحيم الحاضر الأسود، حيث سقطت المبادئ بضربة الإعلام المأجور، وصممت أرصفة المواقع العملاقة لخدمة الإمبريالية الحديثة، وعبدت الطريق للرجل الأبيض كي يهندس الرأي العام العالمي ويصنع اتجاهاته، ويخترق مجتمعات ويدجن أجيالا فيسلخها عن تاريخها وهويتها ويشتت انتماءها القومي ويقدم خطابات معلبة ومعدة باحتراف على أهواء الممسكين بإمبراطورية المال والتكنولوجيا المرعبة.


أضف إلى ذلك حال حكوماتنا وقمع السلطات حيث العقول مروضة في سلة اللا سؤال كون الإجابة باهظة الثمن في أقبية السجون وأجهزة التنصت وحبس الأنفاس وقوانين الطرد وقطع أي خيط للود مع فلسطين كقضية إنسانية وعربية وإسلامية.


لأجل كل هذا تبقى العيون شاخصة باتجاه ساحات الوغى وخطوط النار عل الميدان يخبر بجديد يطيح بأوهام السلام إلى غير رجعة وعل العرب يستنقذون ما أهدر من وقت دون جدوى مستلهمين من مقولة المناضل الليبي عمر المختار الذي خاطب أعداءه يوما ما قائلا: ما أردتم السلام يوما ولكن أردتم الوقت.


وها هو الدم الفلسطيني يقرع الأبواب، فلا وقت نضيعه والرهان على شرفاء ينبضون بالحق ويؤكدون لنا كل يوم أن النصر قريب وأن بازار بيع الأوهام أغلق تماما وأن السلام الموعود في ذمة الله!.


شارك

مقالات ذات صلة