سياسة
لا تبذل السلطة أي جهد في تحسين صورتها أمام الناس، حتى أولئك الذين تدّعي أنها ترغب في التحاور معهم أو الاستماع لآرائهم، إنّما تعيد إنتاج قمعها بأدوات مستهلكة وبذات الوقاحة، وتستكمل خطّتها في التخلّص من قيود الدستور والقانون -الذي لا تحترمهما أصلاً- تخلّصًا تامًا، أو تقنينًا نصوصيًّا لجرائمها المستمرّة بحق الوطن ومواطنيه.
موقفي من “الحوار الوطني” مكرّر حدّ الملل، ورفضي له ينطلق أساسًا من هزليّة أداء السلطة فيه وعدم جدّيتها، بل وتناقض كلّ خطوة تخطوها مع أيّ ادّعاء للحوار على أيّ صورة، وهو ما تحسمه بحملات الاختطاف/الاعتقال التي تقوم بها تزامنًا مع كلّ جلسة، والقرارات الجنونيّة التي تُخرجها في نفس لحظة حديثها عن القادم “الأفضل”.
لكن بقدر رفضي لهذه الصورة المبتذلة والملفّقة للحوار، كما اعتقادي بصدق نوايا الكثيرين من الأصدقاء والرفاق والأساتذة المشاركين في جلساته بأغراض طيّبة أو حتى برغبة مخلصة في تقديم الرأي المتخصّص، أو المشورة في الصياغات وغيرها، بقدر انزعاجي الشديد من هذا الربط الملفّق-الذي لفّقته السلطة توقيتًا وتربيطًا- بين جلسات الحوار حول مواد الحبس الاحتياطي وظهور تعديلات برلمانيّة من العدم (أو من مقرّ جهاز ما) على قانون الإجراءات الجنائيّة، سبقتها أحاديث رئاسيّة تُلبس الموضوع طرطور الاستجابة لتوصيات الحوار الوطني إنهاءًا لأزمة الحبس الاحتياطي ومراعاةً لمأساة الآلاف من المعتقلين وأسرهم؛ وهو ما سيبدو للعوام وكثيرٌ من الكُسالى تواطئًا من هؤلاء وصولاً للنتيجة الكارثيّة (الجريمة) بحقّ المواطنين ومنظومة العدالة النازفة في بلادنا المسكينة، على غير حقيقة الأمر.
لستُ في معرض الدفاع عن أحد، ولا حتى معايرة أحد بموقفٍ سبق وحذّرنا منه، إنّما تأكيد على أنّ السلطة لن تتوقّف عن نصب الفِخاخ لكلّ من يقبل بالتواصل معها ولو من موقع المعارض، لحرقهم عند جمهورهم الأصيل واضطرارهم لأخذ خطوات أكثر تجاهها دون الخوف من أثر ذلك عند “الجمهور” أو لتجريدهم من ورقة “القاعدة” التي يعتمدون عليها في حديثهم للسلطة والتخلّص منهم مطلقًا تخلّصًا من إزعاجهم أو ضغطهم (السياسي أو الحقوقي).
وكما لم أصدّق ادّعاء ” الحوار”، لم أصدّق رغبة السلطة في حلّ أزمة المعتقلين أو المحبوسين احتياطيًّا-لا أصدّق السلطة مطلقًا، حتى لا أدّعي غير الحقيقة- وكأنّ الأزمة هي غياب النصّ القانوني أو قصوره عن تحقيق العدالة، وكأنّ القوانين أو مواد الدستور الموجودة بالفعل منذ بداية الحقبة المشئومة لا تفي، أو لم تدهسها البيادات والدبابات لآلاف المرّات على مرأى ومسمع.
صحيح أنّ السلطة لم تترك فرصة إلا وخرّقت فيها أي مادة تضمن أيّ حقّ للمواطن المصري، خاصّة فيما يتعلّق بالعدالة الجنائيّة وحقوق التقاضي، وأنّ ما رسّخته من جرائم في هذا الملفّ نسف كلّ احتمال لوجود عدالة في أيّ مرحلة من مراحل التقاضي تلك نسفًا يقينيًّا، لا استثناء فيه، وصحيح أنّها مستمرّة تضخيم مظلمتها تلك بلا نهاية، لكن رغم ذلك لو طبّقت فقط قوانينها القاصرة والظالمة، لانتفى غالب الظلم الواقع على المواطنين في المعتقلات وخارجها.
لكن تعالَ ننظر سويًّا لاختطاف الناس من الشوارع أو البيوت ومحال العمل من قبل ملثّمين في سيارات مدنيّة ولباس مدني، وتعذيبهم ، وإخفاؤهم قسريًّا لأيّام أو لسنوات أو حتى للأبد، تعالَ ننظر للتدوير (ذلك المصطلح التشييئي، والواقع المقرف) واستنساخ التهم بأرقام مغايرة، تعالَ ننظر لمنع المحامين من تقديم دفوعهم أو تسجيل طلباتهم، ومنع المتهمين من الكلام، والصندوق الزجاجي المبتَدَع، ومنع العوام والإعلام من حضور الجلسات، ورفض تلقّي البلاغات أو التحقيق فيها، وتهديد فرق الدفاع أو المتهمين، وابتزاز المعتقلين وأسرهم، ومنع الرعاية الطبيّة قسرًا، ومنع الحقوق الأساسيّة كالتريض والزيارة والرسائل…إلى آخر قائمة الجرائم، أيٌّ من هذه الجرائم وغيرها يقرّه القانون أو لا يجرّمه؟
إذًا ليست الكارثة في غياب النصّ القانوني أو قصوره-وهو الحاصل فعلاً، إنّما في رسوخ إرادة السلطة بكافة مستوياتها على نسف كلّ احتمال للعدالة في هذا البلد المسكين، وتقنين جرائم أجهزتها المرعبة بحق العدالة والمواطنين حتى لا يُحتجّ عليها بقوانينها (كأنّما شكّل القانون فارقًا في أي مرحلة من عمرها) واستخدام الكلّ أدواتًا وأشخاص ومؤسسات لتحقيق هذه الخطّة، في ذات الوقت الذي تنتظر من الجميع شكرها على تفهّمها وحوارها ورحمتها التي وسعت كلّ شيء.