مدونات
الكاتبة: آية أبو طاقية
الخامسْ والعشرون من كانون أول، صقيعٌ صارخٌ يُسعّر الأنفاسَ ويُسمم الجسد، لم تنتهِ بعدُ ليالٍ من نار، هل يمكن أن تُقتطعَ هذه إلا من جهنم، زمهريرٌ أحالنا إلى هياكلَ محترقة، لا شيءَ نعرفُه غير العاجلِ الوحيد، “لا زلنا أحياء”، فقدنا الاتصال بالعائلة، لا نعرف كيفَ بل هل يعيشُ الجميعُ، سوانا.
نغلق علينا الأبواب والستائر منذ خمس وعشرين يوماً، تُحاصرُنا عن قربٍ دباباتُ الاحتلال وآلياته، كل شيء بدأ بالنفاد، مثل أنفاسنا تماماً، أَدركْنا اليوم أننا بالكاد نُعرَّفُ كـ “أرقام”، لا شيءَ سوى أرقام، نحن لا شيء في مثقال هذا الكوكب، وحدنا انزوينا في قاع البئر، لا نسمعُ خطوَ السَّيارة، ولم يُدْلِ أحدٌ فيهم دَلوه، فقدنا كلَّ مصادر الازعاج حتى أصواتُ السيارات في الشوارع قُبضتْ فجأة، هنا اختفت كلُّ الأصوات التي نَستدّلُّ بها على ضوء النهار، تُشبه انقراضاً مفاجئاً لأحد الكائنات الحية، لا صوتَ يَصدُر من أرصفة الشوارع غير احتكاك الجنازير ، جنازير الدبابات، للمرة الأولى أتجرأُ على مشاهدتها خلف الستارة، أدرك أن الجنديَّ في قلبها لن يرحمَ فضولي، حُرقت ملامحُ الشوارع الملاصقة، وكذا بقيةُ الشوارع الممتدةِ، كلها اليوم ترزحُ تحت لعنتهم، الشوارع تُغتال كالبشر، تئن بصوتٍ منخفض حين لا تسمعُ إلا طنينَ الجرافة التي تلتهمُ خطوط الاسفلت بشراهة، يبدو صوتُها متقطعاً ومريباً، تئنُّ حتى تموت!
لم نُحسن نحن المختبئون داخل جدران البيوت المتبقية غير الانصاتِ فجأة، يَحبسُ الجميعُ أنفاسه حالما تقترب أرتالُ الآليات، يخشى كل واحدٍ فينا أن يعاود الملاعين كسر الأبواب وتفجيرَ المداخل، ليبدؤوا مجتمعين على قتلنا، هكذا بالضبط، كنا تجهّزنا للموت في الاقتحام الأخير، قتلوا جارنا المقابل، بينما يحمل جوازه وأوراقه، وقف الطبيبُ المسكين خلف بابه مستعداً للحديث، كبّر فزِعاً حين باغتوا عُزلتَه، لم ينتظر أحدُهم أن يتسلى بخرق جسده كاملاً ليظلّ “جبريلُ” معكوفاً على حاله إلى أن استطاع الجيران لمسه بعد ثلاثة أيام، كانت فرصة سريعة لأكثرهم بمجرد ابتعاد الجيش فترة مؤقتة عن الحيّ..
ثوانٍ قلائلَ حالت بين علمنا بفراغ الشارع من الجنود وانتفاضة الجيران لفتح الباب الخارجي للعمارة، سارع الرّجال كلهم للبحث عن رزقٍ يسدُّ رمقهم وأطفالهم، ثم خمسُ دقائقَ أخرى كانت الفاصلَ الزمني لانبعاثهم، صرخوا فزعين مشتتين: “أدهم تصاوب”..
بلغتِ الثامنةَ صباحاً حِين أيقظَتنا صرخاتُ الشّبان: “فضوا الغرفة، فضوا الغرفة”، كنا نبيتُ بصحبة الجيران في غرفةٍ وحيدةٍ داخل شقتهم، لاعتقادنا بأنها آمنة، ولكَم تنازعنا مازحاتٍ “من ستنام الليلةَ تحت النافذة؟!”، النوافذُ الزجاجيةُ أيضاً كانت مصدر خطرٍ ما كان يهونه إلا أنّ أقدارنا تشابهت. كالمجانين صرنا نقفزُ خارج الغرفةِ بينما انهالت المزيدُ من الصيحات “حُطوه هان، حطوه هان”، طلقةٌ في صدره خلّفت جرحاً نافذاً إلى ظهره، ضاقت أنفاسُ أدهم، وأبشع من ذلك كلّه ..لا يوجد طبيب، ولا يمكن الوصول إلى أحدهم!
انقطعت شبكات المحمول نهائياً منذ أسبوعين، كما انقطعت أنفاسُنا بينما يحاول الجميع تذكّر ما فاته من معلوماتٍ إذ كيف سينجو من الاصابةِ أدهم؟! ” من الخطورة أن نحملَ مصاباً إلى المشفى، فلا زالت الطائرات تُطلق الرصاص على المواطنين. استشهد الصديق أنس، أصيب أخاه في قدميه محاولاً انقاذه، ولم يكن أدهم ليستطيع انقاذ أيّ منهما، رجعوا جميعهم من حقل الموت الذي نصبه الاحتلال في أجوائنا، وإن ادّعى أنه ينسحب من الأحياء التي يحرقها ويهرب.
عاد الرجالُ الذين ترقبوا الخروج الآمن من العمارة بعد حصارٍ ناريّ لم يتوقف مدة ثلاث وعشرين يوماً ليُدركوا بخروجهم هذا أن الأمان الذي انتظرناه جميعاً لم يكن إلا جنازاتٍ مؤجلة. كُفّن أنس وفي قبو العمارةِ صلى الجيران على الشاب العشريني و الطبيب الشهيد، لم يكن بمقدورهم معاودة الذهاب لإتمامالدفن، وعلى عُجالة ٍغطوا جسد الرجّلين بالطين داخل حفرة صغيرةٍ لا تصلحُ للموتً داخل حديقة “جبريل” المجاورة للعمارة، ذلكَ أنّ الدفنَ في مقابر الأموات يشبه عندنا أمنيةً سريةً في عيدِ ميلاد، كان سهلاً على القطط الجائعة أن تنبش أرضاُ دفنت أجساداً لتُكرمَها، لكنها في الواقع أهانتها، وأهانتنا. أما نحن فقد أدركنا مؤخراً أن أصدقَ ما في الحربِ أنها اكتَشَفتْنا، فإما هي ستَرتْنا أو عرّتنا، وما أكثر عوراتٍ باسم الوطن.