مدونات

الرأسمالية وخذلان غزّة

أغسطس 25, 2024

الرأسمالية وخذلان غزّة

الكاتبة: زينب خليل جلفي
كاتبة وناشطة فلسطينية

 

لطالما كنتُ أتساءل في صغري حينما كنّا نشاهد في وثائقيات الناشيونال جيوغرافيك أسدًا يهاجم قطيعًا من الحُمُر الوحشية مثلاً: لمَ لا يهاجم القطيع الضخم ذلك الأسد بكل سهولة لإنقاذ أخيهم الضحيّة؟ لم أجد إجابة شافية حتّى رأيت حال أمّتنا اليوم: إنّه مزيج سامّ من الخوف والفرديّة!


نحن نعلم جميعًا أنّ خذلان الشّعوب العربيّة تحديدًا لغزّة سببه حاجز الخوف، لكن خوفٌ ممَّ؟ أَمِن وَحش هنا هو أنفسنا؟ أم المؤسسات؟ أم الحكومات؟ أم أنّه شيءٌ أكبر بكثير؟


الحقيقة الصّادمة هي أنّه ليس بذاك الشيء الكبير حقًّا، لكنّه وحش خفيّ يسكننا وبيوتنا، ويتحكّم بنا وبردود أفعالنا، وتحديدًا ردود الأفعال التي تكونُ تجاه قضايا ضخمة، كقضيّة الإبادة الجماعية مثلاً. وهذا الوحش، هو وحش الخوف من الخسارة الناتج عن ثقافة الرأسمالية والتي باتت تتحكّم بعلاقاتنا مع كلّ شيء حولنا دون أن نشعر. لذا سألخّص العلاقة بين هذه الثقافة التي فُرضت علينا بشكل ممنهج، وبين تخاذلنا عن نصرة غزّة.


الرأسمالية هو التطبيق العملي لليبرالية وخاصة فيما يخصّ الاقتصاد، لكنّني هنا لستُ بصدد الخوض بتفاصيل الرأسمالية من الناحية الأكاديمية، أكثر من رغبتي بتوضيح آثارها الثقافيّة والاجتماعية على الفرد والمجتمع، وكيف أمست سلاح الحكومات الخفيّ لإخضاع الشعوب والتّحكّم بها كالدمى. للثقافة الرأسمالية أربع أركان: الفرديّة، التسليع، الاستهلاكيّة من خلال مخاطبة الغرائز، والبقاء للأقوى.


ومن هنا سأبدأ بنواة الرأسمالية ألا وهو ركن الفرديّة. الفرديّة هي روح الأنانيّة، وأن يجعل الفرد مصلحته فوق الجماعة. وهذا أمرٌ منافٍ لتعاليم الدين الإسلامي الذي يحثّنا على أن نكون جسداً واحدًا، إن اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى. الفرديّة جعلت همّ الفرد منّا اللهث وراء المصلحة الذاتيّة وإن كانت ستضرّ بمصلحة الأمّة. فتأمين لقمة العيش ومستقبل الأولاد من خلال الصّمت عن إبادة إخوتي، وعدم النزول والاحتجاج للمطالبة بإيقافها، هو نتاج هذه الثقافة الرأسمالية. وهكذا تمّ تسليح الفرديّة من قبل الحكومات بجعلها ورقة الضغط على الفرد ليبقى متخاذلا، صامتًا في سبيل أن يسلم هو أولاده ومستقبلهم من التبعات. وهكذا أيضًا تمّ تحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات أشبه بالأحياء الأموات (الزومبي)، مُخدّرين بتخمة الرأسمالية الاستهلاكيّة.


ومن هنا ننتقل لركن التسليع، والذي يرتبط بشكل مباشر بالرّكن الثّالث وهو الاستهلاكيّة. وهما برأيي يتجسّدان بأبهى صورهما في أيّامنا هذه حينما وصل بنا الحال إلى محاولة إقناع البعض بأنّه وجب عليهم التخلّي عن مشروبهم المفضّل فقط لإنقاذ أخيهم من الذّبح!


التسليع والاستهلاكية من جهة التاجر هو تحويل كلّ شيء لسلعة تباع وتخاطب الشهوات وإن كانت تلك السلعة هو الإنسان نفسه. ومن جهة المُشتري، فهو إقناعه بأنّ السّعادة لا تتحقّق إلا بشراء تلك السلعة. والسّعادة، كلمة أودّ الوقوف عندها قليلاً، حيث أنّني أعتبرها حلقة مفرغة نركض ونلهث في دوائرها دون بداية أو نهاية لأنّنا وبكلّ بساطة أخطأنا فهمها وفهم المسلك الذي يوصلنا إليها. فهل فعلاً السعادة تُشترى؟ هل التّخلّي عن المبادئ والقيم ومنها نصرة المظلوم، حقًّا يجلبُ السّعادة؟ أم العكس؟ سأذكر هنا كلمة الشاعر أمل دنقل “هي أشياء لا تُشترى”، ثمّ أدلّل من ديننا الحنيف الذي علّمنا أنّ السّعادة لا تُبتغى من غيره فالتعلّق بغيره مذلّة، وأنّ الدنيا فانية والمادّة ليست إلّا وسيلة للسّعي فيها وليست غايتها، وأنّ السّعي عبادة شريطة أنّ تكون خالصة لوجهه تعالى وبالالتزام أوامره واجتناب نواهيه. فابتعادنا عن الفهم الصّحيح للعقيدة هو ما أدّى بنا إلى ما نحنُ عليه من تخاذل وتعلّق بالدّنيا وكراهية للموت في سبيل كلمة الحقّ ومناصرة المظلوم.


القانون الأخير للرأسمالية هو بمثابة المكمّل لما سبق، ألا وهو قانون البقاء للأقوى أو قانون الغاب الذي يزيد الغنيّ غنًا ويزيد الفقير فقرًا، ويسنّ ويبيح كلّ شيء في سبيل بقاء الأقوى. ومن الأشياء التي يبيحها، وإن كانت دون حقّ مشروع، أو تُمارس دون الالتزام بالقوانين الدولية، هي الحروب. ولعلّ أوجز شرح لهذا القانون هو مَثَل “الغاية تُبرّر الوسيلة” فقانون البقاء للأقوى يرمي بكلّ الأخلاقيّات والمبادئ عرض الحائط وهو ما يُشعرنا في زمننا، وخاصة في دولنا العربيّة، أنّنا نعيش في إحدى الغابات، فنجد القانون يُطبّق فقط على الضعيف! سيجادلني البعض هنا بحجة أنّ هذا يعود للفساد وليس للرأسماليّة، وسأردّ بأنّ الرأسمالية هي ما أنتجت هذا الفساد، فالسوق بالنّسبة للرأسمالية يصحّح نفسه بنفسه تحت شعار “دعه يعمل دعه يمرّ” فتحقيق مصلحة الفرد أهمّ من مصلحة الجماعة. متأكدة أنني الآن أعدتك أيّها القارئ إلى أمثلة حيّة حولك لأشخاص ليس لديهم أدنى إشكال بأن يظلموا وينهبوا الحقوق في سبيل الحصول على قطعتهم من الكعك، وهذا هو نتاج ثقافة “البقاء للأقوى”.


كخلاصة، الرأسمالية عزّزت ثقافات مدمّرة لفكرة الجسد الواحد في ديننا الحنيف، نواتها الفرديّة التي عزّزت الأنانيّة، وتفرّعاتها هي التسليع والاستهلاكيّة اللذان عزّزا حبّ الدّنيا والتعلّق بالمادّة والخوف من خسارتها. معادلة بسيطة:


الرأسمالية = المال، المال = الترف، الترف = الأنانيّة، الأنانية = ظلم حقوق العباد وغياب الشعور بالأخر. فتجد الغنيّ المُترف في دولنا هو آخر من يشغل عقله قضايا الأمّة، وأخر المستعدّين للتضحيّة بجزء من مساحة راحته كالتخلّي عن مشروبه المفضّل مثلاً. وتجدّ الفقير هو أوّل من يألم لإخوته في غزّة وسوريا والسودان..الخ، وأوّل المستعدّين للبذل في سبيل الحقّ.  ولعلّ كلّ هذا المقال يتلخّص في حديثه صلّي الله عليه وسلّم حينما سُئِل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا، وكراهية الموت» وربّما كان فهم هذا تحديدّا هو سلاح غزّة الأقوى الذي قهر الجيش الذي لا يُقهر!



شارك

مقالات ذات صلة