أدب

فؤاد بُليْبل: الشاعر المنسي

أغسطس 24, 2024

فؤاد بُليْبل: الشاعر المنسي

فؤاد بليبل، هو شاعر نسيه الأدباء، فلا تجد له اليوم ذكرًا، مع أنه عاش في القرن العشرين. ولن تكون مبالِغا إذا قلت إن هذا الشاعر هو إحدى معجزات الشعر العربي المعاصر.


لم يعمر فؤاد طويلا، فقد توفي وهو بن تسع وعشرين سنة. لكنك إذا قرأت شعره، وجدت من قرب المأخذ وجودة الأسلوب وعلو المعاني وقوة الحجة ما لن تجده في شعر كثير من كبار الشعراء المعاصرين، فكان على صِغر سنه شاعرا فحلا مبرزا.


كان فؤاد مسيحيا، من نصارى لبنان المتيمين باللغة العربية، ولكي أكون منصفا يجب القول إنه لبناني ومصري في آن معا، فهو في الأصل من أسرة لبنانية هاجرت إلى مصر، فقد ولد بمصر عام 1911م وعاش في مصر بعض طفولته، لكن أهله عادوا به إلى لبنان ليدرس بها، ثم درس بعد ذلك في بكفَيّا، البلدة اللبنانية، في مدارس الفرير، وقد كان يقول الشعر حينئذ وينشره في الصحف اللبنانية.


بعد ذلك عاد إلى مصر عام 1932، وهو ابن عشرين سنة، وظل بعد ذلك يسافر بين مصر و لبنان دائم الترحال بينهما. ثم عام 1935 عمل مدرسا للغة العربية في الإسكندرية في كلية سان مارك التابعة لمدارس الفرير. ثم فيما بعد ترك تلك المهنة وعمل في جريدة الأهرام عام 1937، وظل يعمل بها إلى أن توفي سنة 1941، وهو ابن تسع وعشرين سنة.


قصائد فؤاد بليل هي ملاحم ومرافعات قوية تضم محتوى لا يمكنك أن ترفع عنه بصرك لقوة الأسلوب ومتعة المعاني. ومن أحب قصائده إلي سينيته التي يتذكر فيها أيام صباه ويتذكر فيها دراسته في لبنان، حيث يقول في أولها:


ملكتْ علي مضاجعي ونعاسي – ذكرى الحمى وتيقُّظُ الإحساس

ما كدتُ أنقَهُ من تباريح الهوى – حتى أُصِبت من الهوى بنُكاسِ

مع أنني والشوق ملء جوانحي – ما كنت بالناسي ولا المتناسي

مالي وللأيام أنشد عدلها – فتزيد في ظلمي وفي إتعاسي

بينا أرى الآمال وهي مواخرٌ – حتى أرى الآلام وهي رواسِ

يا ويح قلبي ما يفيق صبابة – إني أراه دائم الوسواس


ويقول في هذه القصيدة مشتاقا لأيامه في بكفيا بلبنان:


مثّلتُ أوطاني وعهد طفولتي – ومراتع الأحباب والجلاسِ

أيامَ كنت بها عزيزا جانبي – والربع ربعي والأناس أناسي

واللهو شتى، والمنى تفتر لي – وتضم إصباحي إلى إغلاسي

ما كنتُ أعلمُ والزمانُ مؤانسي – أن النوى ستنال من إيناسِي

لله أيام ببكفيا خلت – ما كان ألعب ذكرهن براسِ

ذهبت نعم ذهبت وهذا ذكرها – حي بقلبي الخافق الحساسِ


في آخر هذه القصيدة يثني على لغوي عمل معه اسمه “توماس” فينوه بدور توماس هذا في خدمة اللغة العربية، فيقول:


إن أنسَ لا أنس الرفاق ومعهدا – أكرم بعهد رئيسه توماسِ

اللوذعي فما يشق غباره – هو والعلا في بردة أخماس

حسبي وحسب الضاد أنك ربها – ومعيد رسم طلولها الأدراسِ

وكفاكَ أنك قد أسوت جراحها – وبعثتها من ظلمة الأرماس

ونفخت فيها الروح فهي فتية – تغري العيي بقدها المياس

أذخيرة الفصحى سلمتَ فما على الـ – ـفصحى وأنت إمامها من باسِ


كان فؤاد بليبل يحب المسلمين ويثني على النبي صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله في إحدى قصائده يمدح بعض معاصريه:


رجل ترى العلياء والآلاء من – أضرابه وتراه من أضرابها

وترى الفضائل خصصته بخير ما – نص النبي المصطفى بكتابها


ويقول من قصيدة له ذاكرا تكاتف المسلمين والمسيحيين في مصر ضد الاستعمار الغربي:


أيام هبوا للجهاد وكلهم – أمل وإيمان سما فاستحكما

متضامنين على النضال فما ترى – إلا مسيحيا يؤازر مسلما


كان فؤاد بليبل على صغر سنه يتفجر شعره حكمة وتجربة فتخاله شيخا طاعنا في السن وأنت تقرأ شعره، ومن ذلك قوله في إحدى قصائده:


عَلى قَدرِ مالِ المَرءِ يَزدادُ قَدرُهُ – وَلَيسَ بِغَيرِ المالِ تَعلو مَراتِبُه

فَإِن زادَ زادَ الناسُ مِنهُ تَقَرُّباً – وَإن قَلَّ يَوماً أَنكَرَتهُ أَقارِبُه

وَصاحَبَنا مَن لا نَوَدُّ عَلى الغِنى – فلما افتقرنا لم نجد من نصاحبه


ثم يقول في القصيدة نفسها حاضا الناس على العمل وعلى المضي في العزم:


إذا كنتَ في ما تبتغي مترددا – تهم بأمر تارة وتجانبه

كثير انقلاب الرأي في كل حالة – فلن تبلغ الشأو الذي أنت طالبه

وما أدرك المنشودَ إلا مواظب – عليه عنيد ثابت الرأي صائبه


من عجائب فؤاد بليبل، قصيدة له هي عبارة عن مرافعة من أقوى المرافعات التي ظلمها التاريخ إذ لو أنصف الدهر لكانت في المقررات والمناهج الدراسية. قصة هذه القصيدة أنه كانت في مصر حينئذ مهنة الدعارة أكرمكم الله مُقنّنة، وكان المجتمع ينبذ ممارِسات تلك المهنة كعادة أي مجتمع محافظ. لكن فؤاد بليبل يلوم المجتمع على تفريطه في بناته ويريد من الحكومة حينئذ أن تتولى أمر فتيات الليل فتنتشلهن من ذلك القاع وتربيهن وتعيد تأهيلهن، إذ لو كن وجدن المحيط الملائم لما لجأن إلى هذه الممارسة الوضيعة، ففؤاد بليبل يعتبر المجتمع منافقا لأنه يقبل توبة الرجل ولا يقبل توبة المرأة، يرى فؤاد بليبل أن المجتمع يلوم بائعة الهوى -وهي طبعا تستحق اللوم- لكن المجتمع نفسه لا يلوم الرجل الذي ارتكب معها نصف الجريمة، فهي لا تستطيع ارتكاب الفاحشة وحدها دون وجود الرجل، ويكرس وجهة نظره هذه في قصيدة هي من أنبل وأحسن ما قيل من الشعر المعاصر. يقول فؤاد بليبل مخاطبا فتاةَ الليل ومهاجما المجتمع:


أسألتِ من نبذوكِ نبذ المنكرِ – كم بينهم من فاجر متسترِ

الخيرون وهم أشر بني الورى – الأبرياء وليس فيهم من بري

القائلون بغير ما قد أضمروا – من معلن أو أعلنوا من مضمر

من كلِّ عادٍ في ملابس عادلٍ – أو ثعلب يزهى بلِبدة حيدرِ

أو كافر متعبد، أو فاسق – متعفف أو صاغر متكبر


ثم يقول واصفا المآسي التي مرت بها بائعة الهوى هذه:


حتى إذا تم اختبارك للورى – وسُلخت في الماخور بضعةَ أشهر

وخبَرتِ أخلاق الرجالِ جميعهم – وبلوتهم فرأيت كل محير

وعجمتِ عودَ خلالهم فوجدته – عودا خسيس النبت هش المكسرِ

ألفيتِ أوفاهم بعهدك غادرا – ورأيت ذا الإقدام أول مدبر

ولمست بهتان الغني ومكره – وشهدتِ عدوان الفقير المعسر

وأبت نواميس الحياة وعرفها – أن تستردي ما فقَدت وتطهري

لم يُجدِك الدمع الصبيب شفاعة – فخذي بأسباب التجمل أو ذري


إلى أن يقول في أحد أجزاء هذه القصيدة واصفا مشهدا جمعه بفتاة الليل هذه وهي في غرفتها:


لله بائعة بمنعرج الحمى – عرضت بضاعتها على من يشتري

وقفت تساومني وفي لفَتاتها – ذل الوضيع وثورة المتكبر

ووقفت مضطرب الفؤاد حيالها – حيران بين تقدم وتأخر

في غرفة حمراء تحسب أنها – قد ضرجت بدم العفاف المهدر

مصباحها الوهاج عين لم تنم – تحصي عداد الفاسقين الزور


ثم يقص عليك بعد ذلك مادار بينهما ويذكر نصيحته لها بترك هذه المهنة إلى أن يقول مشفقا على هذه المرأة ومدافعا عنها:


إن الألى أنحوا عليكِ بلومهم – هم أكرهوك على احتراف المنكرِ

ودعوْكِ بائعة الأثيم من الهوى – كذبوا فإن الذنب ذنب المشتري


إلى أن يقول بعد ذلك حاضا وزارة الإصلاح على تولي شؤون هؤلاء النسوة:


أ وزارة الإصلاح تلك ضحية – إن تشمَليها بالعناية تؤجري

ولرب عاهرة إذا ما أصلحت – كانت أعف من العفاف الأطهرِ


مرافعة قوية جدا، طبعا ليست المرافعة الوحيدة التي يطالب فيها فؤاد بليبل بإنقاذ  هؤلاء النسوة، فله قصيدة أخرى طريفة يقول منها:


يا ابنة العار والخنا والرذيله – أنا لولاكِ ما عرفتُ الفضيله

أنتِ كالليل فيه قد كمَن النور – ومنه مد الصباح تليله

ومن الشر ما يحض على الخيـ – ـر ويهدي أخا الضلال سبيله

إن في لحظك الأثيم بريقا – طاهرا أخطأ الورى تأويلهْ


لفؤاد بليبل لديوان اسمه “أغاريد الربيع” جُمع فيه شعره من الصحف بعد وفاته، وقد قدم لديوانه شاعر القُطرين خليل مُطران. وقد تأثر أصدقاء فؤاد بليبل كثيرا بعد رحيله المفاجئ، ويعبر عن ذلك زميله في الأهرام محمد الحناوي حين يقول:


أعددتُ من دمعي السّخين مِدادي — وجعلــــتُ من شِعـــري شِعــارَ حِــــدادي

ما كنـــتُ أحســَبُ أنني مُتخلـِّــفٌ — حتى تـــــرى عينــــايَ نعْـــــــشَ فــــؤادِ


فؤاد لعمري شاعر يستحق أن يُدرس شعره في المقررات العربية، فأجيالنا أحوج ما تكون إلى تعلم هذه البراعة والمعاني النبيلة.


عشتم طويلا.

شارك