في أولِ لحظةٍ وقعتْ عيني على هذه الصورة، وضعتُ يدي بالضبط فوق قلبي أتحسسه برفق ووجع، وقلت بأنين خفيّ: كم أحتاج يا سما لمثل ذلك المنديل فوقه؟
هل هو منديلٌ سحريّ مثل ذلك الذي كنا نراه عبر شاشة التلفاز، حين يقف الساحر أمامنا على المنصة فيضع المنديل بين يديه، يكوّره ثم ينفضه فجأة فتطير حمامة، يكوّرهُ مرةً ثانية ثم ينفضه فجأةً فينسدل فستانٌ جميل ملوّن، يكوّرهُ مرّةً ثالثة فتظهر وردة جورية، أتخيلها بخيال الشاعرة أنّها وردة حمراء يانعة كثيفة البتلات عودها أخضر حين أمسكها بين يديّ لن تموت!
لم يكن الساحر يكذب، لقد كان المنديلُ سحرياً حقاً، ويستطيع أن يفعل الكثير، لكن أين يكمن السرّ في المنديل أم في اليد التي تجعله سحرياً؟، أعرف أناساً كثيرين أمسكوا مناديلَ بيضاء كبيرة بينما يعبرون من أمام الحواجز التي صنعها الاحتلال من شمال غزة لجنوبه والتي تُسمّى الحلّابات تعرّضوا للموت، وتكوّر المنديل الأبيض على دمهم، لا أعرف ماذا يمكن أن أسمّي ذلك المنديل، إنه يشبه الخوف الأخير في سقوطه عابراً إلى فردوس الأمان المطلق، ذلك المنديل الذي يتكوّر على دماء الشهداء أسميه فردوساً، اسمٌ يليق بالدم الذي تغشّاه فارتفع به!
وأعرفُ امرأةً دهست الدبابات أطفالها وزوجها لكنها ظلت على قيد الحياة ولتستطيع الزحف على يدين ونصف قدم متبقية ربطت الجرح بمنديلها، وقد لفّته بإحكامٍ مطلق عليه، وحين فعلت ذلك استطاعت استجماع قوتها والزحف لتنجو، ذلك المنديل البطل، شدّ الجرح وسكّن الألم ولو للحظاتٍ وجيزة، أفكر ماذا أسمّيه، ربّما أسمّيه ناصراً
وأعرف منديل أمّي متعدد الاستخدامات، كان غطاءً للعجين كي يتخمّر، وكان مفرشاً للخبز، وكان قناعاً للوجه حين قصفونا بالفسفور، وحين عرفت بنبأ استشهاد أطفالي الأربعة لفتني به، لا أعرف لماذا فعلت هذا، لكنني شعرت بأنّه يشبه كساء النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت حينها قد همست بها، دثّريني به أكثر يا ماما! ومنديل أمّي لا أحبّ أن أختار له اسماً سوى اسمه: “منديل أمّي”.
وأعرفُ منديلاً كان يلقيه الصهاينة على أكتافهم أثناء التحضير لعزائم تلمودية في محور نتساريم، الجندي الذي يعدّ التراتيل كان قد ألقى منديلاً كبيراً على كتفيه ذلك المنديل أسميتُه (القاتل) لأنّه سرقَ الأرض ثم استوطنها ثم قتل كل الذين ينتمي عرقهم لها، والحقيقة أنّ هذا المنديل يحبه الكثيرون ولا يرونه إلا طيباً ونظيفاً، هم يرونه مظلوماً لأنّه لم يقضِ على جميع السكان الأصليين لفلسطين، لأنّه مازال ينزعج كلّما سمع صوتنا الفلسطينيّ بينما يستجمّ على شواطئ يافا الفلسطينية.
أقول ( آه ) عميقة بألم شديد و( آه ) طويلة لا أعرف متى تنتهي!
وأحتاج أن أسأل سما، هل ساعد منديلك السحري محمداً على العزف، وهل فرح محمد به، هل استطاع أن يعزف معزوفته الأولى بعد فقدان يده الجميلة وأصابعه الخمسة، هل يمكن أن يتحول المنديل إلى يد؟ هل يمكن أن يعزف نوتة موسيقية؟ وهل يمكن أن يُنطط به الكرة حين يريد، أو أن يمسك به فرشاة الرسم إذا أراد أن يلوّن لوحة، وهل يستطيع أن يحسّ به وجه أمّه حين يقول لها أحبّك؟ هل يمكن أن يمسك به الملعقة إذا أراد تناول الأرز أو الشوكة إذا أراد أن يلتقط به قطع البطاطس المقرمشة وهل يستطيع أن يفتح به النافذة أول الصبح أو يشدّ الستارة عنها حتّى وهل يمكن أن يُنبتَ أصابعاً له إذا مدّ أحدهم يده ليسلّم عليه؟
أيها المنديل كُنْ سحرياً كلّما لمست جسد ناجٍ من الحرب في غزّة.. أرجوك!