سياسة
إحدى عشرة سنة من القتل والسجن والنفي والملاحقة، من الزج بخيرة أهل البلاد في الزنازين، وقمع الكتلة التي كان يُعوَّل في أي حراك، من قطع ألسنة الذين هتفوا بعبارات كثيرة بدلًا من “عاش الرئيس” وجمَله الركيكة المكررة، بما في ذلك هتافهم من أجل غزة كلما تألمت غزة، ولسوريا كلما توعكت سوريا، ولليمن كلما مرضت اليمن، ولكل شبر من تراب العرب والمسلمين في بقاع الأرض، وللإنسان المقهور أيا كانت للحق قضيته، وأينما حلت مظلمته، ومتى استغاث ليغاث، وللحق قبل كل أحد وكل شيء، فكان هو العنوان الأول، والمسعى الفريد، حاملًا العدالة قضية لا هوادة فيها، والخير رسالةً لا تخلي عنها.
إحدى عشرة سنة منذ حل على جسم مصر ذلك الجاثوم الذي يكبلها، الكابوس الذي يسيطر عليها حتى أقنعها أن لا يقظة من سباته أبدًا، السرطان الذي ينهش كل خلية فيها دون رحمة، وهي مكبلة الأيدي والأقدام، مغماة العيون والأفواه، تُسفك حولها الدماء وتزهق الأرواح، يقطع الشجر ويهدم الحجر ويحرق البشر، وهي لا تحرك ساكنا، ولا تهمس بحرف، إلا من أزيز كالإناء الهادر على النار، لكنه مكتوم، مغطَّى، حتى يطفئ جمرته بنفسه دون قصد، لا يملك يدين ترفعان غطاء أو تشعلان نارا، والمحرقة مستمرة في كل مكان، والدمار يخرب العمران والإنسان، والظالم يعيث في الأرض والبحر والجو فسادا، حتى تحولت القاهرة إلى مقهورة، ومصر إلى ذلك “الشيء” المهان المهين الهيّن، الذي لا يقدر على شيء، وقد كانت كلمتها ذات يوم ترجّ أوطانا وأقاليم وقوى، وبيوتا بيضاء!
إحدى عشرة سنة من الفقر والحاجة وإشغال الخلق بالبطون والأمعاء بدلا من العقول، ومن تعطيل القوى وتثبيط العزائم وشلّ الهمم حتى لا يجرؤ في الأرجاء رجل أن يقول غير ما يقول الحاكم، مئة وعشرة ملايين إنسان مجموعون في سجن واحد، تائهون في صحراء كبرى، مخدّرون في غرفة صخرية الجدران، يهزهم الحاكم كلما شعر بانتباههم وإفاقتهم، حتى يدخلوا في غيبوبة جديدة، يضربهم بمطرقته فوق جماجمهم حتى يسحقهم ويسحقها، فلا يقوون على التفكير مجددا، إلا في ما تبقى لهم من نسائم الذاكرة، وهم معزولون عن ذلك الواقع ومنغمسون في توافهه في آن واحد، حتى توقظهم الصيحة الكبرى، والصرخة الثكلى، من الجوار، من ابنة فؤادهم، فيشوّش حضرته صوتها، حتى يصل نشازا، مع صوت جوقة من إعلامييه وسفلته، فيغيّب الشعب من جديد، بينما الأصوات الحرة فيه يقطع أحبالها، حتى لا تتصل بآذان تلبي، ولو سمع الشعب كله فما عساه يفعل في طريق محاصرة بمئات الآلاف من الجند والأسلحة والقرارات العمياء الانتحارية في أي وقت؟
أحد عشر شهرًا، وغزة تدفع من لحمها الحيّ كل ما تملك، تبذل العرق والدم معا لتقاوم، وهي أول الخطوط الأمامية، وهي حائط الصد الصادق، وهي الأمن القومي الممتد، وهي جبهة مصر المكشوفة للعدوّ الفاشيّ، وهي بعيدا عن تلك المصطلحات السياسية والجيوسياسية الركيكة، هي رئة مصر التي تتنفس بها البحر العليل، وهي شعب فلسطين المنصهر بالعرق المصري الأصيل، وهي ما هي، ولا نحتاج في ذلك إلى تعريف، تمدّ يدها محتاجة إلى الجنوب تريد من ينتشلها من تحت الركام، فلا تجد يدا، وتشير بأصابعها إلى فمها فلا تجد لقمة، وتشير بدموعها إلى حلقها فلا تشد شربة، وتشير إلى قلبها بانتقامها فلا تجد عونا، وتشير وتشير حتى تبتر يدها فلا تجد ضمادةً، وتنظر في المدى فلا تجد إلا دولة، لها رأس مخصيّة، تخاف من خيالها وتأكل من ذلها، وتقبل أن ترى المجازر دون أن تتحرك قيد أنملة، بينما تعيش السفيرة الإسرائيلية في بنايات القاهرة، دون أن يطلب منها أحد ولو أن تغادر في صمت غير معلن!
غزة التي عزّ نصيرها، يوم اغتيلت باغتيال ناصريها على جبهة الجنوب، فاستجدت الشمال البعيد، بتعقيداته، واستجدت الشرق البعيد بتحدياته، واستجدت كل أحد في كل مكان، لأن المكان الأقرب إليها من كل مكان لم ينظر إليها ولو بعين الأجنبي الذي خاض المعارك في نصرتها، وهو أبعد ما يكون من كل حيثياته عنها، ولا تلزمه إلا الإنسانية وحدها، بينما مصر التي لا يوجد سبب إلا ويلزمها بنصرة غزة، تسدّ آذانها، وتشيح بعينها، ورغم ذلك يتسلل دخان شواء لحوم الأطفال، ودخان الغارات المتصاعد، حقيقة لا مجازا، إلى رئتيها، فتسعل وتسعل، وبدلا من الانتباه، تطلب من الصيدلية الأمريكية “محاميل” للكحة!
وشعب مصر كشعب غزة، في احتلاله الثقيل، في العسكر الذين يطلبون من الجميع أن يحني رأسه، في ذلك المستوطن المستعمر الذي يصادر كل يوم بيتا جديدا، بحجة بناء طريق أو تسكين مستوطنين جدد من الخارج، وأتى من كل كتاب بفصل، ومن كل جريمة حرب بتجربة، فأحرق الأحياء، وسجن الرضع والنساء، وشرّد السكان، وحكم بالنار والحديد والدم، لكن الفارق الوحيد أنه لم يتخيل يوما، أن يكون عدوّه بتلك الدرجة من الخسة والخيانة والنذالة، ففاجأ احتلال القاهرة احتلال القدس، أنه لولاي لن تكون!