مرّ قرابة العام على مخاض الحرب، ولما تضع مولوداً، ومرّت ثمانية أشهر على تركي بيتي في موجة الهروب من الموت المجاني المستمر، كان قدره أن يظلّ واقفاً، ولا أدري أذلك أقل حزناً من انهياره أم أكثر.. بقي البيت خلفنا، شاهداً على حياة تركت بقاياها على كل شيء وفي كل ركن، كأنها تتهيأ لجحافل الزمن الزاحفة عليها سالبة إياها ألوانها النضرة، لتمنحها ذبول القِدم، وبهوت الغبار..
هل كان قدرنا حين غادرنا أن نتقمص أدوار أجدادنا؟ هل كانت أجزاء أرواحنا التي تركناها معلقة على الحوائط، ومزروعة في المزهريات، قرباناً للنجاة في النزوح الطويل؟ وهل أضحت لصورة الأبيض والأسود ذات السيدة مع مفتاح الدار، نسخة حديثة بالألوان، وبدقة HD؟
الآن فهمت قهر جدتي الذي لم ينتهِ منذ هجرتها حتى توُفّيت، كنت أتساءل: كيف لمشاعر مرّت عليها عقود أن تعيش دون أن تتلاشى؟ كيف تبكي على بيت بسيط وحياة بدائية، وقد استبدلتهما بأفضل منهما بكثير؟ كيف تزداد في قلبها الغصة كلما ازداد من حولها النعيم؟!
الآن عرفت معنى أمنيتها: “أن أعود إلى بيتي وأضع فوق ركامه خيمة وأموت فيها”! الآن فقط تذوقت طعم اللجوء، ومرارة النزوح، وقسوة المشاعر التي تتضخم كل يوم بدلاً من أن تذوب!
يا بيتي القريب البعيد، أنا خائفة، خائفة من ألا نعود، من أن تتقلّص بلادنا على الأرض أكثر، وتتضخّم في أرواحنا حدّ الاختناق، خائفة من أن نُدفع في مجاهل الشتات، وأن يُحال بيني وبينك، أن تفصل بيننا ربع ساعة، وحاجز مشئوم، ومستحيل، وأن يُعيد التاريخ نكبتنا حين يُعيد نفسَه.. فتغدو أطلالاً في شارع ناءٍ، في مدينة مدمّرة، ينبذك المحتلّون، ويزورك المنفيّون، وتصير مادة للوثائقيات، ورمزاً للأغاني الوطنية حين تصبح أجدى وسائل الصمود!
أنا خائفة من أن يقف أحفادي يوماً على عتباتك حاملين جنسياتهم الأوروبية، ومعهم مفتاح صدئ، لا باب يفتحه، ويصرخ فيهم شرطي لعين: لا مقام لكم فارجعوا، فيتوشحون بكوفية، ويلتقطون صوراً على حجارتك البالية، ويرفعون علماً، ثم يمضون وهم يحلمون بالعودة!