هل يمرّرون أصابعهم كالسكين على جدران السجن يومياً علّها تتحول لقلمٍ يكتبون به رسائل الشوق؟ أم أنهم يرابطون على بوابة الزنزانةِ كلَّ صباحٍ دونَ مَلل، علّهم يفلحون بإرسال رسالةٍ معجونةٍ بالحنين مع أحد المغادرين المحظوظين؟ لا أزالُ أذكرُ قطعةَ القماش التي عثرتُ عليها في صغري بمكتبِ والدي، والتي كانت تحملُ عنوانَ “تحرير”.
لم يكن هناك من أحفادٍ في العائلة غيرَ “تحرير” حين سُجن والدي على إثرِ أحداثِ الانتفاضةِ الأولى، فكان أولُ ما خطّت يداهُ في السجن، قصيدةً “لتحرير” الصغيرة يُغازل فيها عينيها الزرقاوان، ويُناجي الأملَ الذي قرأهُ بينَ حروفِ اسمها. واليوم، وبعد مرور ما يزيدُ على خمسةٍ وثلاثينَ عاماً، أنظرُ إلى البعيدِ وأتخيّلُ والدي يكتبُ قصيدته الثانيةَ في السجن، فلمن عساها تكون يا تُرى؟ أكادُ أجزمُ أنّه يكتبها ” لريتاج”، صغيرته التي لم تبلغ سوى تسعةَ أقمارٍ من العمرِ قبل أن تتخطّفها صواريخ الاحتلالِ على حينِ غَرّة.
أنظر ثانيةً إلى البعيدِ فأرى والدي ترتجفُ يداه ويترقرقُ الدمعُ في عينيه وهو يكتبُ لعيون ريتاج التي تُضاهي لونَ البحرِ في زُرقتها. ولكن هذه المرة يخُطُّ الرسالة، وهو يعلم بأنّ ريتاج لن تقرأها! أنظرُ إلى البعيد ثالثةً ورابعةً ولا أرى سوى خرقةِ قماشٍ بيضاءَ تلمعُ عليها حروفُ القصيدة، ولكن هذه المرة، لم تكن قطعةُ القماش تعودُ لوسادة السجن المُهترئة، بل كانت الخِرقة التي كان والدي يبرِّدُ فيها رأسَ ريتاج من الحُمّى قبل أن ترحلَ إلى الله شهيدة.
للمرّةِ الأولى منذُ تسعةِ أشهر، يُفلحُ والدي بإرسالِ سلامٍ لنا مع أحدِ أولئكَ المُغادرينَ المحظوظين. ولكن، هل يدري والدي أنّ إبراهيم لن يصله هذا السلام؟ هل يدري بأنّ ولده البِكر قد غادرنا منذ ثمانيةَ عشرَ يوماً وأنّه قد اجتمعَ مع شقيقته ريتاج في دار البقاء؟ لطالما رسمتُ في مُخيِّلتي سيناريوهاتٍ لانتهاءِ الحرب، وكنتُ أتخيَّلُ أنّ أكثر المشاهد ألماً وقسوة هو مشهدُ بحثِ الأسرى عن أهلهم وأحبَّتهم، فمنهم من اختفت عائلتُه ولم يُعرف مصيرها حتى اليوم، ومنهم من دُفنَ أحبَّتُه تحتَ الثرى دونَ وداع.
نعم، هنا غزة، حيثُ الوداعُ ترَفٌ لم ينعم به الكثيرون. هنا غزة، حيثُ أمهاتٌ لم تحظَ بعناقٍ أخير، وآباءٌ لم يُفلحوا بطبعِ قُبلةٍ أخيرة على جَبينِ نجلِهم الشهيد. هنا عددٌ لا حصرَ لهُ من الأسرى لا يُبقيهم على قيدِ الحياة سوى خيطٍ رفيعٍ من الأمل، ونساءٌ ترمّلنَ في عزِّ الصبا ويركضنَ في الصحراء خلف سراب. هنا غزة، حيث آلافُ الأطفالٌ تبكي يُتمها، فأيُّ يدٍ تكفي لتُربِّتَ على أكتافهم غيرَ يدِ الرحمن. ستنتهي الحربُ يوماً، لا ريْب.
ستُعمّرُ البيوتُ وتُرصَفُ الشوارع، وستظُنُّ بأنّ هذه البلادَ عصيةٌ على الانكسار. ستعودُ الكهرُباء، وستَفتحُ المدارسُ أبوابها، وسيعودُ إليها الطُلاب بثيابِ الدراسة لا بثيابِ الحربِ المُهترئة، وسيتناسونَ قسراً بأنّها كانت في ذاتِ حِقبةٍ زمنيةٍ غابرة، عبارةً عن مراكزَ للإيواء. سيدرسُ الطلابُ باجتهاد، وسيحصلون على أعلى الدرجات، وسيُنادي مديرُ المدرسة على أولياءِ أمورهم ليَتِمّ تكريمهم، وحينها سيسودُ صمتٌ قاتلٌ في كلِّ الأرجاء، وسيُنكِّسُ المعلمون وجهوهم ليُداروا العَبَرات، فمعظمُ من يقفُ في المدرسةِ أيتامٌ أو فاقدون.
سيكبرُ الأطفال، وسيكبُرُ معهم الثأر، وحينَ يصبحُ الثأرُ بركاناً، سيخرجُ من بينهم صلاحُ الدينِ ورِفاقُه، وحينها لن يكون هناك لبني صهيونَ من مَفَر! ستختلفُ الأسماء وستختلفُ وسيلةُ الثأر، ولكنّ الهدفَ لن يختلف. وأمّا الأمّةُ المنصورة، فلا زالت هنا، وكما لم يضرَّها من خذلها من قبل، فلن يضرًّها من خذلها هذه المرة، وما يحدثُ فيها ليسَ إلاّ لصَقلِ النفوس ولشحذِ الهمم، ولإشعالِ فتيلِ الثأر في نفس كلِّ من يتنفّسُ فوق أرضها، وأمّا النصر، فلن يكون إلاّ بأمرِ الله وفي الميعادِ الذي اختارهُ وحده، فلا تقنطوا من رحمةِ الله.