سياسة

طموحات الإمارات العسكرية في أفريقيا: استراتيجية ونطاق

أغسطس 15, 2024

طموحات الإمارات العسكرية في أفريقيا: استراتيجية ونطاق

في خضم الاستراتيجيات الدولية المتجددة نحو القارة الأفريقية، تبرز سياسات الإمارات العربية المتحدة بمظهر الحرص على توسيع نفوذها عبر ركائز اقتصادية ولوجستية عبر الموانئ والاستحواذ على الأراضي بأساليب عنيفة كما تناولناها في الجزأين السابقين من سلسلة “الإمارات ترث النفوذ الفرنسي في أفريقيا”، وذلك بالشراكة الاستراتيجية مع فرنسا. تجلت تلك السياسات في مراكمة الاستثمارات والسيطرة على الموانئ الحيوية، مع تمحور خاص في منطقة القرن الأفريقي. وسيتناول هذا الجزء الثالث الوجود العسكري الإماراتي في القارة.


تبدأ القصة مع بواكير التسعينات وحتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حين تبنت الإمارات، استراتيجية فعالة في تعزيز دورها ضمن العمليات الدولية لدعم السلام، ومن ثم، لم تكن مشاركتها في عمليات مثل القوة المؤقتة للأمم المتحدة في الصومال خلال الفترة 1993-1994 بالحادث العابر، بل بداية لمسار تم التخطيط له بعناية. ففي عام 2011، أبرزت الإمارات هذا التوجه عبر مشاركتها الفاعلة في عملية الحامي الموحد بليبيا، حيث ساهمت بفرض منطقة حظر الطيران ضد قوات معمر القذافي، تأكيدًا لرغبتها بلعب دور أوسع في المنطقة. ومع مطلع الألفية الجديدة وحتى الوقت الراهن، شهدنا تناميًا في دور الإمارات كفاعل محوري في الأجندة الأفريقية، ابتداءً من مشروعات البنية التحتية، الموانئ التجارية، قطاعات الطاقة الأحفورية والمتجددة، وكذلك الاستثمار في التعدين.


بالتوازي مع هذه الاستثمارات، برزت الأدوات العسكرية لاحقًا، متجسدة في ثلاثة محاور رئيسية: الأول تشمل التدريب والتعليم العسكري في مكافحة الإرهاب، والثاني: التعاون في مجال صناعة الدفاع وتقديم الأسلحة، والثالث: الدعم غير الرسمي لفصائل مسلحة محلية في مناطق تود بناء نفوذ فيها. وفي هذا الإطار الذي منذ عام 2010، أبرمت الإمارات علاقات دفاعية مع دول شرق أفريقيا والساحل؛ وعلى مدى السنوات الثماني الماضية، عقدت الإمارات ثماني اتفاقيات مع دول أفريقية تركز بالأساس على مكافحة الإرهاب في دول مثل الصومال، بونتلاند، إثيوبيا، تشاد، موريتانيا، مالي، السنغال، كينيا، وموزمبيق. كما قدمت الإمارات التدريب العسكري وبناء قدرات دفاعية لثماني دول أفريقية هي: الصومال، بونتلاند، أرض الصومال، إثيوبيا، تشاد، موريتانيا، ومالي، استثمارًا متواصلاً في وجودها الأمني والعسكري في القارة. 


وهذه الاستراتيجيات الإماراتية كانت نقطة تحول في القارة، بحيث يكون الاستثمار في العسكرة حماية للمكتسبات الاقتصادية، مع التركيز بشكل خاص على تعزيز الموقف الاستراتيجي والأمني في مناطق حيوية.


وبحلول أبريل 2021، امتد دعم الإمارات للعمليات العسكرية ليشمل العملية الفرنسية برخان في منطقة الساحل، حيث أعلنت عن رحلات دعم لوجستي لدعم جهود الجماعات الدولية في مكافحة الإرهاب، بقيادة فرنسا. ومن هنا، تتضح الرؤية: الإمارات تعزز مكانتها الجيوسياسية أفريقيًا، بما فيها ترسيخ حضورها في الدول الأفريقية التي طردت فرنسا، بميزة خاصة، بوصفها دولة لا تحمل الإرث الاستعماري ذاته كحال الدول الغربية.


وفي إطار هذا التوسع، أنشأت الإمارات مواقع عسكرية استراتيجية – إما قواعد عسكرية أو محميات بسيطة تسهل الأنشطة العسكرية- في دول مثل ليبيا، مصر، إريتريا، بونتلاند، الصومال، تشاد، وتمتد هذه الشبكة لتشمل اليمن ضمن منطقة البحر الأحمر، مؤكدة بذلك على أنماط استراتيجية غير تقليدية في التموضع العسكري والدفاعي.


أسباب تمحور الوجود الإماراتي في أفريقيا عسكريًا


تطورت السياسة الإماراتية تجاه القارة بشكل ملحوظ، تحت قيادة محمد بن زايد، الرئيس الحالي للدولة وولي العهد آنذاك، وخصوصًا عقب الأحداث المتلاحقة التي شهدتها المنطقة العربية عام 2011 والحرب في اليمن ضد الحوثيين التي انطلقت في عام 2015 بالشراكة مع المملكة العربية السعودية. هذه الأحداث جعلت الإمارات تولي اهتمامًا متزايدًا بالجوانب الأمنية والعسكرية في سياستها تجاه أفريقيا.


إذن، ثلاثة عوامل أساسية دفعت بهذا التحول الاستراتيجي: الأول، القلق المتزايد من الانتفاضات الشعبية في بعض الدول العربية؛ الثاني، التوتر المتصاعد مع حركة الإصلاح، الفرع المحلي لجماعة الإخوان المسلمين، مما أدى إلى حظر الحركة في الإمارات عام 2014؛ والثالث، تعزيز سلطة محمد بن زايد داخليًا، مع التركيز بشكل خاص على مكافحة الإسلام السياسي في الخارج والتصدي لما تعتبره الإمارات تهديدًا إيرانيًا، وإن أدى ذلك إلى احتواء النفوذ الإيراني في القارة الأفريقية وكذلك النفوذ التركي إلى حدٍ ما. ولتحقيق الأجندة السالفة الذكر، وكذلك لضمان طرق الإمداد وتأمين قاعدة لعملياتها في البحر الأحمر، قامت الإمارات بتنظيم انتشار عسكري ملحوظ في منطقة القرن الأفريقي، بشكل خاص في ميناء عصب الإريتري حتى عام 2021، وبدرجة أقل في ميناء بربرة في أرض الصومال.


هذا المزيج من جميع ما ذكر هو الذي قاد الإمارات لتصبح أكثر نشاطًا أفريقيًا واستخدامًا غير متحفظ للقوة، مختلفةً عن العقود السابقة التي كانت تتبع فيها سياسة أكثر نعومة، مما دفع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق جيمس ماتيس بوصف الإمارات بـ”إسبرطة الخليج الجديدة”، مقارنة بالمدينة اليونانية القديمة التي كانت معروفة بقوتها العسكرية.


إليكم أمثلة عن الدور العسكري الإماراتي في بعض دول القارة:


تمتد المرحلة الأولى من استراتيجية المواقع العسكرية الإماراتية في أفريقيا من 2016 إلى 2021، مركزةً في بدايتها على ليبيا والسواحل اليمينة المطلة على القارة الأفريقية. إذْ تعتمد الإمارات على مضيق باب المندب كنقطة استراتيجية رئيسية، مع وجود تمركزات في الجانب اليمني والأفريقي.


ثم في إريتريا، من 2015 حتى 2021، حيث سيطرت الإمارات على ميناء المياه العميقة في مدينة عصب بموجب اتفاقية إيجار لمدة 30 عامًا، مستغلة الأراضي الإريترية لدعم عملياتها في اليمن. هذه القاعدة استخدمت أيضًا لإسكان المركبات العسكرية وطائرات بدون طيار، وكمركز لتدريب المقاتلين من اليمن والسودان، لا سيما في معارك بحر الأحمر واستعادة عدن.


على نحوٍ مُماثل، في الحرب الليبية، خلال الفترة من 2016 حتى 2020، دعمت الإمارات قوات خليفة حفتر من خلال غارات جوية ووسعت قاعدة الخادم الجوية بالقرب من بنغازي، حيث نشرت الإمارات طائرات بدون طيار وأسلحة متقدمة. في نفس السياق، تُظهر القاعدة المصرية سيدي براني دورًا في دعم العمليات الإماراتية، حيث استقبلت طائرات من الإمارات كانت تعمل في الحرب الليبية.


الدور العسكري للإمارات في إثيوبيا


خلال النزاع مع جبهة تحرير شعب تيغراي 2020، استفادت إثيوبيا من دعم الطائرات بدون طيار الإماراتية، التي لعبت دورًا حاسمًا في دعم الحكومة الإثيوبية تحت قيادة آبي أحمد. في المقابل، عرضت إثيوبيا، التي تربطها علاقات وثيقة بأبو ظبي، الوصول إلى مواردها كجزء من التحالف بين الطرفين. تطور هذا التحالف إلى مشاركة فاعلة في النزاع المسلح ضد تيغراي، مما ساعد على تعزيز موقف آبي خلال الأزمة في عام 2021.


ثم أدت هذه العلاقة إلى تعزيز التعاون الدفاعي، حيث قامت مجموعة جولدن إنترناشيونال (IGG) الإماراتية، التي يُزعم أن 60% من أسهمها تعود لملكية محمد بن زايد والشيخ طحنون، بإرسال فرق إلى أديس أبابا لبحث إمكانيات مبيعات الأسلحة. كما كان للمجموعة دور سابق في شحن الأسلحة إلى ليبيا لدعم الثوار ضد القذافي ولاحقًا لحفتر. وفي عام 2023، وقّعت إثيوبيا صفقة كبيرة بقيمة 6 مليارات دولار تشمل 113 مشروعًا إماراتيًا، مما يعكس العمق الاقتصادي والعسكري للعلاقات بين البلدين.


وفي الصومال، لعبت الإمارات دورًا محوريًا أيضًا، حيث سهّلت الاتفاقيات الثنائية بين أرض الصومال وإثيوبيا، مانحة إثيوبيا وصولًا مباشرًا إلى البحر، فيما تعهدت إثيوبيا بالاعتراف بأرض الصومال كدولة. على الرغم من الفوائد الاستراتيجية لهذه العلاقات، إلا أنها أثارت توترات مع الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود الذي رأى فيها تعديًا على سيادة بلاده، فيما ترتبط الإمارات مع الصومال بمصالح عسكرية هي الأخرى، حيث يساهم الجيش الإماراتي في تدريب الجنود الصوماليين لتعزيز قدراتهم القتالية ضد حركة الشباب المتطرفة، والتي نفذت هجومًا إرهابيًا في فبراير 2023 أسفر عن مقتل أربعة ضباط إماراتيين في البلاد.


الدور العسكري للإمارات في السودان


النزاع المسلح الذي يدور بين القوات المسلحة السودانية تحت قيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو “حميدتي”. هذا الصراع – المروع الذي تخلله وفاة حوالي 150 ألف شخص، تشريد تسعة ملايين، واحتياج 25 مليونًا للمساعدات الطارئة- يعكس كذلك معركة للهيمنة الإقليمية، حيث تظهر المملكة العربية السعودية تفضيلًا للبرهان، بينما تقدم الإمارات الدعم لحميدتي. في هذه الحرب سعت الإمارات لترسيخ نفوذها وتعزيز مكانتها العسكرية من خلال الدعم المقدم لميلشيا الدعم السريع تحت تبرير بأنها “تحارب الإسلاميين” التي تود أبو ظبي منع وصولهم إلى السلطة عبر العسكر.


التعاون بين الإمارات وقوات الدعم السريع ليس بجديد، بل يمتد قبل الصراع الحالي في السودان. فقد استفاد حميدتي، اقتصاديًا بشكل كبير من علاقته بالإمارات، إذ قدم آلاف المرتزقة لدعمها في اليمن وليبيا. كذلك، تسيطر عائلة حميدتي على مناطق تعدين الذهب في دارفور، ويُباع معظم هذا الذهب بطريقة غير قانونية في دبي، حيث يدير شقيقه الأصغر أموال العائلة. 


في 2019، قدم الشيخ طحنون بن زايد طائرة خاصة لحميدتي لتسهيل تنقلاته ودعم موقفه ضد برهان. رغم الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبها كلا الطرفين في السودان، تحمل قوات الدعم السريع مسؤولية عن العديد من الجرائم والمذابح في دارفور، مما أدى إلى نزوح نحو 5.3 مليون شخص، بما في ذلك نحو 400 ألف لجأوا إلى تشاد. بحسب تقرير للأمم المتحدة، استخدمت الإمارات العربية المتحدة البعثات الإنسانية كغطاء لإرسال الأسلحة إلى قوات الدعم السريع عبر مطار أم جرس في تشاد، لمساعدتها في مواجهة القوات الجوية السودانية. مع الإشارة إلى أن الإمارات تنفي تورطها بالتكرار.


ختامًا، إن هذه الاستراتيجيات الإماراتية ليست مجرد عمليات عسكرية، بل تتبع مسارًا استراتيجيًا يجمع بين التطلعات التجارية والجيوستراتيجية في أفريقيا، وتهدف إلى ترسيخ سيطرتها عبر قواعد وموانئ على المسارات البحرية الحيوية، معززًا بإنشاء بنى تحتية ساحلية والسيطرة على الممرات البحرية الاستراتيجية، مما يكشف عن تداخل المصالح التجارية بالأمنية. وللبحر الأحمر أهمية خاصة في معادلة السياسة الإماراتية، إذ يتقاطع مع اتجاهين بحريين: الأول يمتد من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط عبر اليمن ثم الصومال إلى ليبيا، والثاني يتجه من البحر الأحمر نحو غرب المحيط الهندي، ما يجعلهما نقطة التقاء محورية في تأثير الإمارات العابر للإقليم.


وفي ظل هذه الجيوستراتيجية، تسعى أبو ظبي أيضًا لكسب النفوذ السياسي عبر تأسيس حكومات موالية، تعمل جنبًا إلى جنب مع الإمارات في تنسيق يتناغم مع سياساتها الإقليمية، سواء في مواجهة الإسلام السياسي أو في التصدي للنفوذ الإيراني. وبذا تقوم الإمارات بملء فراغ النفوذ الفرنسي في أفريقيا، دون معارضة من القوى الغربية التي تجد في أبو ظبي شريكًا قادرًا على تحقيق مصالحها دون الحاجة لتوغل استعماري جديد. ويبقى الخاسر الأكبر في هذه المعادلة هو أفريقيا نفسها، التي تجد نفسها محور صراعات نفوذ لا تعود بالنفع المباشر على شعوبها.



شارك