تأملات
قبل 11 عاما من اليوم، في ذلك الميدان محدود السعة والجوانب، الواقع بين منشآت الجيش، وبلاد الله وشوارع الخلق، المحاصر من كل اتجاه بالآليات العسكرية، وعشرات الآلاف من الضباط والمجندين المدججين بأفظع الأسلحة، وبطائرات الهليكوبتر، من الجو، وبالقناصة شرقا وغربا ما بين السماء والأرض، والقوم برجالهم ونسائهم وأطفالهم يراقبون الكارثة، مذهولين من المشهد، محدقة عيونهم ولا يكادون يصدقون، بينما يتقدم الصوت المزعج المنذر بالموت بالمدرعات والجرافات، في حين تلتهم النيران الخيام على الأطراف، وتتحول سماء القاهرة إلى غمامة سوداء كالحة، لم تبرح مكانها منذ ذلك الصباح البعيد، الأقرب من كل شيء إلى الذاكرة!
لا تغادر الصورة ذهني، ولا تخفت ساعةً في عيني، كل شيء كما هو، إعلان النيابة العامة سماحها لقوات الجيش والداخلية بفض الميدان -كأننا في دولة قانون-، وصوت الرصاص الذي يرافق الإعلان كأنه احتفال فوري ومسبق بمجزرة تلوح في الأفق، وطرقعة الخيام التي تحترق بما فيها، ومن فيها، وأصوات السعال المتصاعدة بحشرجة واختناق الرضع بغاز الأعصاب والمسيل للدموع وغازات لم نرَ ولم نشم مثيلا لها من قبل، ثم الرصاص المنهمر من خلف الجرافات التي يعتليها أفراد الجيش والشرطة في انسجام نادر، وهي تدخل من مداخل الميدان، وتزيح أكوام الحجارة، بينما يحاول البعض استيعاب الحدث، وأنه يحدث فعلا، فيقاومون الرصاص المصبوب ببعض الحجارة!
كل شيء معتم في الأجواء، بساط الحياة ينسحب من تحت أقدامنا، نصيبنا من أكسجين الأرض ينفد تحت وطأة الغاز الكثيف، ثم لا شيء إلا الدم، دماء، دماء، دماء، في كل مكان، على صدري سقط أول شهيد في ذلك الجانب من الميدان الذي تحول إلى مسلخ هائل، كان شابا يصغرني، في نحو الخامسة عشرة من عمره تقريبا، وجسمه ممتلئ، ورأسه ممتلئ برصاصة كبيرة الحجم، لم يرَها أحد لحظة دخولها بتصوير بطيء، لكن تلك النافورة من الدم، وذلك المخ الخارج على الرأس، يخبرنا بحجم القتلة وبشاعتها، انخلع نعلي حينها، وبقيت حافيا من كل شيء، أدوس فوق الحمم بكعبين ملتهبين، وأجري يمنة ويسرة ولا أحد ممن أعرفهم حولي، كنت وحدي تماما، وحدي وقد سقط حتى هاتفي، وكان توقفي لالتقاطه يعني أن أحصل على جوالي بينما أخرج أنا عن الخدمة، فاقدا الحياة.
وهكذا كان اليوم كله، أمخاخ رأيتها بأم عيني، متساقطة في كل اتجاه، وصغار يصرخون من اللهب لا اللعب، وأمهات يسّاقطن برصاصات تخترق الجباه والصدور، تغتال الأحضان والحنان في مقتل، والدخان ما زال يتصاعد للأعلى، مخلوطا برائحة البلاستيك والجثث، ومئات الشهداء يُحملون واحدا تلو الآخر إلى المستشفى الميداني، أو إلى اللامكان، كان الميدان كله مشرحة كبيرة، فلمَ تتعب نفسك باختيار زاوية الرقود؟ كل الجثث في كل الأركان، ولا طعام، ولا شراب، ولا توقف لحظة عن الرصاص، أولاد الحرام يتبادلون النوبات علينا، يسلم بعضهم بعضا، دون أن تقل كثافة الزخات لحظة واحدة، وتتصاعد الأصوات المزعجة ذاتها بين حين وحين، متحدثة بسخرية عن “ممرات آمنة”، تلك الممرات التي عبرها البعض فلم يعودوا منذ إحدى عشرة سنة.
أتذكر وجوه الشبان الصغار، المتشحة بسواد كامل، من أثر الدخان والأرض، مختلطا بها الدم من أثر الجثث والجروح، وهم يأخذون نبذة عن الوطن من حماته، ويتعرفون في عقود عمرهم الأولى، وزهرات شبابهم، على ذلك البلد الجميل، تلك الأرض التي ينتنمون إليها ويحملون جنسيتها، وهؤلاء هم جيشها وداخليتها، يجربون فيهم أحدث الأسلحة الآتية من صفقات الحرام، وكان من المفترض أن تدفع العدوّ على الحدود، أو تطارد الإرهاب الحقيقي، لكنها تستعذب الأهداف السهلة، التي لا تكبدهم أي مشقة في المواجهة، ولا تدفعهم إلى أي خسارة، يغتالون العزّل، ويستهدفون الصدور العارية، والأيدي الخاوية.
يتحججون بذرائع واهية، قالوا إن بعض المعتصمين يحملون السلاح، أي سلاح يمكنه أن يقاوم جيش البلاد؟ ولو وُجد -جدلًا ونزولًا على حجة مصاصي الدماء- فأي ذريعة تلك التي ترسّخ لمذبحة بحق خمسة آلاف شهيد؟ دعك من أرقام الأمم المتحدة، والوزارات القذرة، والإحصائيات الحقوقية النجسة الممتطاه من الدولة حينها، أنا رأيت ما رأيت، وأحصيت من أحصيت، والألف بالنسبة لحجم ما شهدت لا يساوي عدد الشهداء حتى منتصف النهار، ولا يساوي عدد الجثث التي كانت فقط في المستشفى الميداني، ذلك المستشفى الذي استُشهد من فيه أيضًا، وقتل الجرحى، واعتقلوا، واستشهد الأطباء القائمون على عملهم، واستشهد الممرضون والمسعفون، وقُتل الصغار الذين كانوا بصحبة أهليهم في وسط الميدان، وتخضّب صدر أسماء بالدم القاني، وانقطع عن وجهها المضيء نور الحياة، وكم من أسماء كانت في الميدان ذلك اليوم، أسماوات كثر، وكثُر بلا أسماء!
وقفتُ على باب المسجد، يفور الدم مني، أضع منديلًا على رأسي، أتوهّم أنه جرح بسيط، يقف جنود غلاظ ضخام الهيئة والصوت، على باب المسجد، بعدما فضوا الميدان كاملا، وهدأت أصوات الرصاص، ونجحوا في مهمتهم بعد 12 ساعة متواصلة من المذبحة، يخيروننا بين “الممر الآمن” والقتل، فاخترنا البقاء في المسجد -يعني القتل بالنسبة لهم-، فبادروا بإحراقه من بابه، ونحن محاصرون داخله، ووالله شهدتهم يحرقونه بأيديهم، وشهدت الباب يتآكل من اللهب، وشهدت النيران تدنو من الجثث، ونحن مذعورون نحاول إنقاذ ما تبقى منها، يحملها الكبار ويخرجون من باب خلفي، وجدنا عنده الجنود المدججين أيضًا، وحينها سقطت فاقدا الحياة، حتى إشعار آخر.
كنتُ هناك ذلك اليوم، وغادرت، ولم يغادرني المكان ولا الزمان، ظل عالقًا في رأسي، كتب الله له الخلود بذاكرتي عبر شظيّة رصاص اخترقت دماغي، واستقرت قبل ميلليمترين من مخي، هكذا أخبرني طبيب الجراحة بعد يومين من مغادرة رابعة، وقد كنتُ لساعات طوال جثةً بين الجثث، نزفت رأسي بقدر ما نزفت، فاقدًا الوعي، وملامحي تخبر أنني فارقت الحياة، حتى عدت إليها على حين غرة، وعلى غير المنتظر، فواصلتها، وفي قلبي وعقلي وجسمي جرح غائر وثأر ثقيل اسمه “رابعة”!
ومنذ ذلك اليوم، كان المشهد تجربة مما سيجري بعد 11 عاما أخرى، في غزة المجاورة، لأنهم حين قتلونا، وذبحونا، ورأينا الناس في الشرفات مقسومين إلى فريقين، البعض يصرخ ويبكي ويحسبن، والبعض يزغرد ويهلل، عرفنا أننا خُذلنا من الجميع، وذلك الخذلان سيتبعه خذلان أكبر، من الجميع أيضًا، لضحايا “رابعة” التالية، وعشنا الكثيرا من “الرابعات” حتى وجدنا غزة، فعرفنا أنها ليست رابعة كبيرة، وإنما نحن الذين كنا قبلها “غزة صغرى”، يمهدون بقتلنا للمقتلة التالية، لأن لولا قاتلنا، لما جرؤ قاتلهم، على تلك الإبادة الهائلة.