مدونات
لم نرضخ لسُبات عميق، ولم تُعلق صورتنا دون ألوان على الجدران، نحنُ وإن دُفنّا نُدفن أحياءً. وأنا وسط هذا الجنون كله المُحطّم المُستبشرُ، المُبغضُ الغافرُ، المُنكر الناسك، الغارقُ الناجي، أنا الباقي مع من تبقّى من “الجيل زد” “Generation Z” .
أعود إلى نفس المكان كلما اشتاق الصباح للسكينة، أزيل الأحجار التي تهاوت قسراً، وأترك لها حرية نقش الجروح والكدمات على ساعديّ. كلما شعرت بالتعب، أتذكر من رحلوا البارحة حتى نحظى نحن بهذا السلام اليوم.. لن تبدأ مرحلة إعمار غزة قبل أشهر، لكن الغزيّ الكنعاني يرفض الانتظار كما رفض سابقاً الاستسلام، يُحركه إيمان بساعاته القادمة وموعداً مع حرية أيدتها شعارات الغرب والشرق، يدفعه وقود من اللون القاني سقى التربة حتى أنبتت عزيمته.
بدأت الحجارة تُصبح أكبر وأثقل، والبقعة التي أنقل إليها ما أجمعه؛ أبعد. استعرت سيارة “بيك أب” مجهولة المالك، حياً كان في غزتنا أو حياً عند بارئه، لن يمانع بالتأكيد هدفي النبيل بتشييد جدران جديدة تعيد الأمل للطلبة الذين أعيقت رحلتهم التعليمية.
تعبتُ من العمل بمفردي، لكنني سيّد الأرض وهذه البقعة لي، وكل خطوة أخطوها على ركام هذا المبنى هي بمثابة أمنية تلو الأخرى أحقق بها أحلام الراحلين عن عالمنا والمُتمسكين به. وكلما شعرت بوهنٍ أتصفح الموقع الإلكتروني للجامعة الإسلامية عبر هاتفي، صورها وأخبارها القديمة تُعيد إلي الصلابة للوقوف. هنا بدأت حريتنا، من هذه الجامعة التي رقصت في مدرجاتها في حفل تخرجنا يوم السادس من أكتوبر 2023.
هنا كانت الجامعة الإسلامية التي تضم أكثر من 170 برنامجاً أكاديمياً، والحاصلة على 33 مركزا بحثياً وعلمياً، والتي شهدت تخريج الأطباء والعلماء والمهندسين من أبناء غزّتي. جامعتنا العريقة كانت عضوا في اتحاد الجامعات العربية، وصرحاً علمياً وتاريخياً تربطها علاقات تعاون بالكثير من الجامعات العربية والغربية، لكنهم تخلّوا عنها فأصبحت كل تلك الروابط والعضويات مجرد حبر على ورق.
انتهت حربٌ دامية لم تُدمر فينا أكثر من هذا الصخر المُفتت على أجسادنا. حتى الأطراف التي قُطّعت منّا بقيت تنهال عليهم ضرباً في منامهم، يروننا كما يرون الشمس لا تطفئنا محاولاتهم في طمسنا. امتلأت قصتنا الجديدة بالحياة والرؤية المستقبلية لحرية انتظرها أطفالنا بعد أن نمنا على رصيف مُغبر كان فيه الموت حارسنا طوال الليل.. كيف هزمناهم؟ القصة بدأت قبل ثمانين عاماً. لقد هزموا بالفعل، لقد جربوا كل أنواع القتل ومع ذلك، نبتت أرواحنا من بين الضحايا التي ودعتنا ليُعمّر جيلنا هذه الدولة الوليدة، ونبني معبراً جديداً لغدٍ نستحقه نحن وعائلاتنا. لقد حاربوا منّا من يقاتل ومن لا يقاتل، الشيخ والجنين، المُعلم والتلميذ..
حاربوا الفلسطيني لجرم لا يغتفر، أنه مازال واقفاً على رمال غزة يدفع قاربه باتجاه البحر، ويقرأ الكتب ويتسلح بالعلم، ويزرع البذور ويسقي الأشجار.. ذهني المشوش عاد لوعيه، انتهينا من أصوات الحرب قبل أيام، ورفعنا أعلامنا في أنحاء الدولة احتفالاً بالنصر، الحصار الذي همّش واقعنا على مدار 17 سنة انتهى، ومعابر الحياة فتحت ذراعيها لتحتضن أحلامنا بالمُستقبل الذي نتمنى.
بدأنا نتعافى من ملامح الجوع التي رسمت خريطتها على أجسادنا ووجوهنا، والطرق باتجاه الضفة تشدّ أزرها لتلاقينا بإخوتنا هناك. لقد شكّلت حربنا الأخيرة رواية فلسطينية جديدة لنكباتنا المتتالية. وتغير لون الشوارع إلى القاني وروت الخيمة تفاصيل أهلها. كل ما قلته لنفسي خلال ساعات الحرب الطويلة وصدقته؛ تحقق. لقد صدقت نفسي حين كذبتُ على إخوتي وصدقني الله، حين قلتُ لهم أن تحريرنا مُمكن، وبأن الحصار سينتهي لا محالة، ومهما اشتد جبروت الظالم فإنه يوماً ما سيسقط.
أذكر كيف كنت أنظر من حولي يوم قُصفت الجامعة المجاورة لمنزلنا، هرعنا إلى الشارع وكان المشهد لا يُوصف، نظرتُ في وجوه الناس فرأيتها مُجهدة ومُكبلة بحرقة تشوحها نظرات الصمود، تردد ألسنتهم يارب وحسبنا الله ونعم الوكيل. أصوات أعرفها وأصوات أخرى بعيدة، الكل مألوف ولا أفقه اسم أحد من الذهول. الدخان في كل مكان يعيق رؤيتي ويخنق أنفاسي. وفجأة صرخت حنجرتي.. أين أبي لا أراه، بقينا نبحث عنه أنا وإخوتي، نبحث في وجوه الناس وخلف ظهورهم.
تعلقنا بالأمل لساعات، ثم لأيام.. أبي خرج ليقتات لنا مما أنبتت الأرض، ولم يعد.. لا أذكر تفاصيل المكان في تلك اللحظة، كانت بقايا النيران تتبخر إلى السماء طالبةً الرحمة، وبكاء الأطفال يرسم مشهداً ملحمياً من الألم والخوف، وكانت الحرية لا تبعد عنا الكثير من السنوات الضوئية والهجرية، كنا نراها قادمة، فالقلوب لا يصيبها العجز قبل التوقف، إما أن تُنعش نبضاتها أو تصمت بهدوء، وقلوبنا لم تصم.
أقف اليوم في هذه البقعة من الأرض، حيث تبقى شامخة جامعتنا العريقة التي رسمت مستقبلي ومستقبل مئات الآلاف من سكان غزة، وأتذكر أبي الذي أخذني من يدي ليُسجلني ومعه ما جمعه من رحيق عمره الطاهر، كم كان فخوراً بأول أبنائه ومستبشراً بي خيراً.. سأبنيها، سأعيد ترتيب قاعاتها، سأجدد ألوانها، وسأكون أول من يدخلها، وأستقبل طلابها، وأحيي علمها، وأعدّ منهجها، وأقيم حدودها وقوانينها. كل ما أفعله الآن من أجلك يا أبي.. هل تسمعني؟ تمرّ الأيام في روزنامتي والمهمة ليست هينة، قررت إخبار من بقي من زملائي عن نيتي في عودة نهج التعليم إلى غزتنا في أقرب وقت ممكن، لن أنتظر وزارة التربية والتعليم ولا مشاريع الإعمار، أريد أن أحقق حلم والدي بتخريج إخوتي.
هنا بدأت حكايتي الحقيقية، وكل ما مضى كان وهماً. انضمّ إلي الكثيرون، يداً واحدة أزحنا الركام على مدار ستة أيام، عملنا ليلاً نهاراً حتى نُحقق غايتنا، فانضم المزيد والمزيد من أبناء غزتنا. تخرجتُ من حسن حظي قبل كل هذه الفوضى، وإن كنتُ لا أحمل شهادتي بيدي، لكن لقد شهد هذا المكان على ما أنجزت قبل تهافته، وبقي زُملائي وإخوتي ينتظرون حلم التخرج، سأكون معلمكم ومرشدكم، سوف أبني لكم من الدمار صرحاً، سوف أبدع في تقليد حركات بروفيسوراتنا، مشياتهم وكلماتهم.. سنتذكرهم، سنحييهم من خلف الغبار ونُكمل درباً ما وهنوا في تشييده لنا. سوف نُخرج أجيالاً تلو الأخرى تحكي كيف قمنا من تحت الركام، سوف نستقبل الطلاب من كافة أنحاء العالم ونشارك في صناعة الأمجاد كما اعتاد أن يفعل آباؤنا وأجدادنا.
والدي الذي اختفى تحت الركام قبل أن يشهد تخريج إخوتي وأخواتي هو أكثر ما يحتل تفكيري، هذا قبرك يا أبي، سوف ترى إخوتي من فردوسك الأعلى بأثواب التخرج، أعدك أبي.. نحن “الجيل زد”، في الوقت الذي يستخدم أقراننا تطبيقات الذكاء الاصطناعي للاستمتاع بيومهم، نحفر نحن الأرض لنضع أسس علمنا وثقافتنا ومعرفتنا، وكل ما سيأتي من تطبيقات ذكية مستقبلاً، ستكون نابعة من جامعتنا وطلبتنا.. وسنحمل اسم جيل الحرية، سوف ندرس ونبني ونعمل ونحقق الإنجازات التي لطالما حلمنا بها بعد أن زال مُحتلنا.