منذ أن اهتزت جدران بيتنا ليلة الزلزال، تغيرت نظرتي إلى البيت، إلى فكرة البيت، إلى معنى الاحتواء والشعور بالأمان! لأول مرة، استشعرت معنى أن ترتعد فرائصك جميعها دفعة واحدة، وأن تجهل ما يحدث حولك. تسمع صرخات من الخارج، وقع أقدام تجري في الأزقة، وصوت دقات قلبك التي تسابق نفسها.
يتوقف عقلك عن التفكير بينما الأرض تستمر في الاهتزاز تحتك. ما الذي يجري؟ ماذا سأفعل؟ أين سأحتمي؟ ضرب الزلزال، انهارت الجدران، وخارت القصص والحكايا، والألفة والأمان.. وارتقت أرواح الشهداء إلى رب رحيم.
بين زلزال الثامن من سبتمبر في المغرب والعدوان الإسرائيلي في الثامن من أكتوبر على غزة، شهر طويل، مر علي بكل ثقله وارتجاف الترقب فيه.توحش العدو الإسرائيلي، وسحق البيوت على رؤوس ساكنيها، وخارت الحكايا والذكريات، وارتقت أرواح الشهداء إلى رب رحيم.
حفظ الله بيتنا، فالشرخ لم يصل جدرانه، لكنه تسلل إلى روحي، وانشرخت منذ ذلك الحين. فكرة الإحساس بالآمان هي فكرة عظيمة جداً. أن تملك رقعة خاصة بك، مليئة بتفاصيلك الصغيرة، حيث استجمعتَ فيها وعلى مر سنوات طويلة ذكريات كثيرة، كل ركن فيها يحمل قصة، صوتًا وحكاية.
في غرفتي، مكتبة تحوي روايات غسان كنفاني وعبد الكريم الجويطي، ومجلات ماجد وقصص المكتبة الخضراء، وكأس شمع ملون أهدته لي أختي في عيد ميلادي الثالث والعشرين، ودب باندا عملاق. في صندوق متوسط الحجم، رتبت أدوات التطريز الخاصة بي: بعض الصوف الملون، نصف متر من ثوب أبيض، مقص وإطارات خشبية. وعلى منضدتي، عقاقير، قارورة ماء، ورواية لم أتمكن بعد من إنهائها.
عندما أخاف، أهرع إلى غرفتي، أستكين فيها حتى يهدأ الخوف في صدري فأنام، وأستيقظ على صوت إيمان، “لقد أتينا، هيا استفيقي، خالتي مريم!” في بيتنا، صنبور لا يعمل، وثلاجة أمي هي الوحيدة التي تعرف كيف ترتب الخضروات فيها دون أن تُتلف. في بهوه، خزانة للأواني، بها صحون “طاووس” تكبرني بأربعة عقود من الزمن.
من خلف شاشة هاتفي، في غرفتي، تحت سقف البيت، أشاهد عشرات الآلاف من الفلسطينيين يشاهدون بيوتهم تُسحق أمام أعينهم، ويُجبرون على تركها والنزوح. إلى أين؟ لا أحد يدري.. فأسأل نفسي: ماذا لو هُددت اليوم بإخلاء البيت، بإخلاء غرفتي، بنسيان ذكرياتي وتفاصيلي الصغيرة، بمحو سبع وعشرين سنة قضيتها هنا بعدما أطلقت أولى صرخاتي في غرفة النوم في هذا البيت! أمر صعب.. مؤلم.. أليس كذلك! هذا ما حدث وما يزال يحدث منذ ست وسبعين سنة في فلسطين، وهذا ما نشاهده كل يوم خلف الشاشات، في منازلنا. مجزرة تلو الأخرى، ورؤوس أطفال مُلقاة هنا وهناك، وبيوت لم يتبقَّ فيها شيء سوى الحطام، وحرب إعلامية تشهر أنيابها بكل جبن وحقارة.
هم ليسوا أرقاما؛ كانوا مثلك تماماً، لهم حياة وأحلام وعائلة، إخفاقات وآمال، هوايات، غرفة صغيرة بها دبدوب على شكل أرنب وسطل من الحلوى مخبأ للضيوف.. هم أيضا خبأوا على مدار السنين قصصهم وحكاياتهم فيه. لم يرغبوا في ترك بيوتهم، مثلك، تماما .. فماتوا فيها وفي عنقهم مفاتيحها!
أتفقد ردود الدول على ما يحدث، فأُثقل بعبارات مثل “نستنكر، ندين، نعرب عن قلقنا، نطالب بضبط النفس”! نصيحة مجانية: إذا حدث وفقدت بيتك وتقطعت أشلاؤك، فحاول أن تضبط نفسك!