سياسة
ما من مظلة تقينا شتاء التردي وعواصف الانحدار، وما من سور يرتفع بيننا وبين التفلت الضارب يمينا ويسارا. قد لا نبالغ حقا إن نكسنا الأقلام ذات صيف وصمتنا دقيقة حداد على الحال الصعب، وعلى هيكل صحافتنا وإعلامنا الذي هوى صريعا تحت سطوة المال من جهة والزحف الإلكتروني بعدته وعتاده من جهة أخرى.
الأرقام تبدو مخيفة، العالم مجنون، الواقع مرعب، وما من جهة تقوى على البوح وإفشاء الحقائق، وتقديم المعرفة بثقلها العلمي وحتى الترفيهي، في حقبة توقف تقويمها العمري عند حدود المراهقة الإعلامية والطيش الفكري، والعبث الثقافي، وحيث السبيل إلى النضج متعثر مع غياب أعمدة التوجيه والإرشاد.
ففي عالم التناقضات الصارخة، أصبح الانجراف مع الخطأ حرية ومواكبة عصرية للحداثة، انكفأت الأقلام المضيئة، وعزف ذوو العمق المعرفي والتوعوي عن ارتياد الشاشات، وأخليت المنابر والمنصات لمحترفي التضليل والتحريف والأكاذيب ومراهقي الكلمة والمحتوى. الفراغ يستفحل وقلة يحاولون ملأه دون جدوى.
أما قطار الحروب المتنقل فخير شاهد وفاضح لما تخلفه النيران المستعرة، فلسطين الآن مثالنا الحي والمستمر لتكميم الأفواه ومصادرة الآراء وخطفها إلى جهة معلومة من احتلال وسياسيين ومنظمات وتجار أزمات. ففي غزة حيث عجلة الحرب الطاحنة، يمسك المراسل بيد المصور ويستشهدان، يراق دم الكلمة وتشيع الى مثواها الأخير ويتناسى العالم الحر ومدعو الحضارة اتفاقية جنيف مثلا التي أقرت الحماية الدولية للصحفيين في تغطية الحروب والنزاعات.
لا يملك المواطن العربي ترف الرأي الحر والكلمة الصادقة أمام الكاوبوي الأبيض والغرب الذي يتسيد إمبراطورية التكنولوجيا والاتصالات والمهيمن على شيفرة هذا الكوكب بذكائه الصناعي وتقنياته وتطوره المخيف، هذا إلى جانب تحدي الأنظمة الحاكمة ومافيات السلطة التي تجبره على النوم في فراشها و الانضمام إلى جوقة المطبلين لها على منابر الخطابة ومنصات التواصل حيث يسحق آخر هوامش الحرية.
ولا يختلف اثنان على الحقائق المتصدعة التي تفصل في الغرف المغلقة على مقاس الكبار من أهل السياسة وأصحاب المال، والتي تحاك بعناية، وتحرف بدقة، وتخرج على هيئة سطور ونصوص وصور فتنتشر وتحتشد فيما أنتجه الإعلام من وسائل للمتلقين، لا سيما تلك المواد الدسمة للأحداث الكبرى التي يراد لها أن تطبخ على نار مموليها لتنتهي إلى يد المتناولين المغيبين والمضللين أو المبعدين قصرا عن مساحات التفكير والإبداع.
فترانا نشاهد ونتلقى على هواتفنا ونشرات أخبارنا المسائية ما يبرزون به حدثا ما ويخفون به الآخر، ويسلطون الضوء على ضحايا طرف دون الآخر، والترويج للحاكم بأمره أو بث الشائعات بغرض الإشغال وإثارة جدالات عقيمة، وفي أحسن الأحوال التعتيم أو الصمت حيث السكوت من ذهب المؤامرات! وفي النهاية عليك زميلي الصحفي إما أن تدفع الثمن أو أن تكون أشبه بموظف تتحفنا بما تمليه عليك الشركات والمنظمات وصالونات السياسيين وأصحاب السلطة والنفوذ، وقلة اليوم من تختار الطريق الأول.
كذلك، وفي سرد آخر لمسلسل التردي والتراجع لا نغفل ما تسوقه لنا بعض المواقع من منتجات دينية جديدة طارئة على تاريخنا ومجتمعاتنا سواء تلك الآتية من الغرب المنهار أخلاقيا أو من المخدوعين ببريق الحداثة المصطنعة والمتأثرين بطروحات ما أنزل الله بها من السلطان. هكذا لنجد أنفسنا أمام معركة متعددة الجبهات سلاحها متفلت ومتاح لضعفاء النفوس ومروجي السطحية والانبطاح والجشع والفوضى المجتمعية.
يقولون استمروا في التعبير و الكتابة لكن من ذاك الصنف المحدد كما ونوعا، لا تتعدوا الخطوط الحمر، هكذا وشيئا فشيئا تندثر الحقائق ويطمس الحاضر وما من أرشيف يروي فضول الباحثين والقادم من أجيال. بناء عليه، تقع المسؤولية على القلة ممن يحملون شعلة النور وسط العتمة، فهم مطالبون بالتحدي والمواجهة، وضبط إيقاع الكلمة والصوت، ليبقى بصيص من الأمل يلوح في الأفق، علنا نصل إلى اليوم الذي نرمم فيه ما أصاب الجسم الإعلامي من تشوهات وأمراض فتكت ومازالت بعقول صغارنا وكبارنا.