تأملات

إني أشم رائحتهم.. من فتح بالوعة حيّنا؟!

أغسطس 9, 2024

إني أشم رائحتهم.. من فتح بالوعة حيّنا؟!


ربما لم يكن في مخيلة المخططين والمنفذين للسابع من أكتوبر أن يواجَهوا بذلك الكم الصادم من الخذلان والتواطؤ والبيع الرسمي، وحالة الركود والجبن الشعبية رضوخا للقيود والقمع والملاحقة المتراكمة منذ سنوات، لم يتخيلوا أن يواجهوا ذلكم كله معا بجانب وحشية إسرائيلية غير مسبوقة في التاريخ ولو بمعشارها، ولا أن يواجهوا آلة الإعلام الغربية المضللة، ثم آلة الكذب العربية المدلسة، بتلك القوة الهائلة في التبجح والإرجاف والنفاق، والملَكية أكثر من الملك، إذ تتبنى رواية الاحتلال أكثر من الاحتلال نفسه، وتلمّع المحرقة أحرص من وسائل البروباجندا الأمريكية والأوروبية، والفارق أن المتحدث عربي، يملك اسم عائلة عربية، ويحمل جنسية عربية، لكنه يتحدث من قلبٍ عبري صميم.


كل ذلك في وادٍ، وما وجدوه من مراهقي مواقع التواصل، من أنصار “التعايش السلمي” و”الحماية الدولية” و”دعونا نعيش” في وادٍ آخر؛ هؤلاء الذين نبتوا من حيث لا نعرف، ومن زوايا عشّشت فيها الخسة وانعدمت الكرامة، فباتوا لا يكتفون برؤية الاحتلال أمرًا واقعا لا محالة، وإنما يرون فيه “المخلّص” من آلامهم التي تسبب فيها رجالات الشرف وأصحاب المروءة، فلا يطيقون يومًا من دون احتلال يقاتل هؤلاء الذين يحاولون تحرير الجميع، وفي داخلهم صوت يجلجل: لمَ تحررني؟ من أنت؟ ولماذا؟ دعني مسحوقًا تحت أقدامهم وأوحالهم، خير لي من أن تظلني رايات مجدك!


وبدلًا من تسخير الجهد كله في العالم “الافتراضي” لصنع أي أثر يذكر داخل العالم الحقيقي، وأن يكون ثمة تأثير فعلي، ولو بالصراخ في وجوه النائمين، فإنهم يسخرون جهودهم للسخرية من الجهود، ويبذلون أقصى ما لديهم من قدرة على الصياح لينتزعوا “إنسانية” المقاتلين ووطنيتهم، ويلقون عليهم باللوم أنهم حاولوا ذات صباح تحرير الوطن، متسائلين عن دفع الضريبة من أرواح المدنيين، كأن هؤلاء المقاتلين ليسوا أبناء هذا الشعب أصلًا، أو كأنهم يعودون في كل مرة سالمين من القتل والذبح والأسر والفقد، مع أنهم اختاروا طواعية أن يسيروا للموت سيرا محموما لا نجاة فيه ولا عودة منه، إلا جثمانا ممزق الأشلاء!


هم أنفسهم شذاذ الآفاق الذين هاجموا القادة مستكثرين عليهم حياتهم “الطبيعية” خارج غزة، وما هي بطبيعية وإن بدا لهم ظاهرها عاديا، كأن عليهم إذا خرجوا للمنفى ألا يسكنوا الفنادق ولا يمسكوا الملاعق، فيفاوضوا العدوّ وهم عرايا وجوعى، وزايدوا على أولئك الكبار العظام الذين فقدوا أقرب أحبابهم، وفلذات أكبادهم، ورفاق أعمارهم، واستودعوهم شهداء عند الله، بل وقالوا إنهم ليسوا أغلى من أي شهيد في غزة، وهم أبناء هذا المخيم، وتلك الحارة، وذلك البيت المقصوف، لكنهم ظلوا يُخوّنون من “صبية أفيخاي”، حتى استشهد هؤلاء القادة أيضًا، ومع ذلك لم تسلم حتى رفاتهم من التقطيع فيها، والخوض بأعراضها!


والحقيقة أن تعبير “صبية أفيخاي” أعجبني، ورزق سيق إليّ، والدقةُ فيه أن هؤلاء لا يختلف حديثهم عن الناطق العربي لجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي قتل خمسين ألف فلسطيني، وهجّر مليون إنسان، وعذّب آلاف الأسرى، واغتصب العشرات منهم، من أهل غزة في أقل من عام واحد، بل إن “أفيخاي” يقلق على منصبه كثيرًا هذه الأيام، حيث تواجد من يملك قلبًا أبشع من قلبه، ولسانًا أرجف من لسانه، ولغة أمتن من لغته، ويستطيع قول ما يقوله نفسه دون حروف “مكسّرة”، فلا يُستبعد أن يتطوع هؤلاء للجيش بدلًا منه، وحينها سيكون راتبهم أضعف بكثير منه، فيستغنون عنه ترشيدًا للنفقات وتحقيقًا للمفارقات، ويأتون بصبيته، الذين هم أرخص منه بكثير، تقريبًا ببلاش.


لن تتعب كثيرًا حتى تجدهم، في أسفل قيعانهم وسقطات ألسنتهم، في بغضاء قلوبهم ورائحة أفكارهم، في شطحات عقولهم -إن وجدت- وغيظ صدورهم، وعلى ذلك فهم معدودون وقلة، لكنهم منتشرون بفعل التفريخ في مداجن التطبيع، ستلاحظهم نعم، لكنهم محدودو العدد كما هم محدودو العقول، من منطق بسيط، هو أنك لو في منطقة تعيش بها آلاف القطعان من الأسود أو الغزلان، ماذا لو سمعت ذات نهار عن مئة خنزير بري انطلقوا في الغابة؟ ألن تكون ملاحظتهم أسهل؟ سيتناقل البعض أخبارهم، لقد رأينا واحدًا هنا، لقد شاهدنا أحدهم هناك.. لذلك قد تراهم بكثرة، لكن ذلك لا يعني أنهم كثر.


ستقابلهم بوجوه واضحة، وشخصيات معروفة، أو بأسماء مستعارة، بأقنعة ملمعة، أو بماضٍ لا يعرفه إلا أهل غزة وحدهم، وعائلاتهم التي تدفن رؤوسها في الرمال من شدة العار التي ألحقوه بأصولهم، خاصةً حين ينعتهم الصادقون بأولاد الحرام، ستقابلهم من غزة نفسها، كيف لا وهي المدينة الأصيلة الشريفة النبيلة، لكنها ليست المدينة الفاضلة الخيالية، ففيها البر والفاجر، وفيها المقاوم والخائن، وإلا لما احتلت فلسطين من البداية، ولما بقي الاحتلال سبعة عقود يقتات على معلومات العملاء ليعيش مدة أطول، أو يقصف عمر من يقاتله، ستجدهم بلهجات فلسطين ومدنها، وستجدهم بلهجات عربية أخرى، تارةً يرتدون الشال وتارةً يعتمرون العقال، لكن توحدهم سمة واحدة؛ هي تلك الرائحة النفاذة البادية من سحَنهم وحروفهم، حيث يعثون في الأرض متفرقين، لكنهم في الليل، ينامون معًا، في مرحاض الإسرائيلي، داخل بالوعة واحدة!



شارك

مقالات ذات صلة