تأملات

لماذا كان الوداع مهيبا؟

أغسطس 9, 2024

لماذا كان الوداع مهيبا؟

أتذكر أنني يومها قد وضعت هاتفي على الصامت على غير العادة واستغرقت في النوم حتى العاشرة والنصف صباحاً، وما إن استيقظت إلا وقد وجدت أن كمية الاتصالات من الأقارب وبعض الشخصيات كثيرة فأصابتني بالهلع والخوف للوهلة الأولى، ولا أخفيكم سراً أنني ظننت  حيها أن أحد أقاربي قد أصابه مكروه، أو ألمت به مصيبة، أو أن قدر الله قد سبق إلى أمر ما، وبعد أن أجريت الاتصال الأول بأخي وإذ به يخبرني بأن الدنيا قد انقلبت رأساً على عقب وأنت لا زلت نائماً وأخبرني عن خبر استشهاد القائد الشهيد إسماعيل هنيه عليه رحمات ربي تتنزل، وبعد أن أغلقت الهاتف أخذت بالاسترجاع وسؤال الله الرحمة للشهيد وأخذت أقلب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لعل هناك من ينفي الخبر أو يقول أن حادثة الاغتيال لم تكن نهايتها استشهاد شرعية السلطة الفلسطينية الحقيقية القائد أبو العبد رحمه الله، ولكن قدر الله سابق ونافذ ولا مفر منه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

استقبلت نبا استشهاد من كانت حياته بين جهاد وجهاد بمشاعر الحزن على فقد الأمة لقائد ملهم لها بنظراته وسكناته وكلماته، فكانت الأرض تبتهج فرحاً إن علمت أن (أبو العبد) سيحط برحاله فيها زائراً أو خطيبا، فالحزن ولد لدي مقاومة كبيرة نحو عدم التصديق لحادثة الاغتيال الجبانة، فالأمة ترتبط بقادتها ارتباطاً غريباً لا يمكن وصفه إلا بعد الفقد، فهي حين تفقد القائد لا تفقد شخصاً بعينه بقدر ما تفقد معه مجموعة من القيم المتحركة التي كانت توقد العزائم، وتحرك الضمائر، وتختصر المراحل، فحزني كأحد أفراد هذه الأمة نابع من ذلك الارتباط الروحي والأخوي الذي جمعني مع حامل الفكرة والهم الذي نعيش جميعنا من أجلهما، واحساسي في تلك اللحظات وكأن شيئاً ما قد انطفأت جذوته وخفت ناره.

 

إن المشاعر في استقبال نبأ استشهاد إسماعيل هنيه رحمه الله بدأت تنضج بعد مرور الوقت على الصدمة الأولى، وإذ بها تتحول إلى نطاق المفاهيم والأفكار، فما إن هدأت عواصف الغضب والحزن بدأت باستحضار تلك المواقف والشواهد التي تجعلني كمحب للمقاومة والنضال فخوراً بما عاشه الشهيد من مراحل في حياته، وأنه كان مشرفاً لحركته ووطنه ومئات الملايين من المسلمين الذي علقوا آمال الأمة الإسلامية على ثباته وشموخه ورسوخه، فكان وفي كل موقف يخرج بجبين أبيض ووجه ملؤه النور لما قدمه من تضحيات من أجل أن تبقى القضية حاضرة دون انكسار، فلم يكن رحمه الله يوماً مهادناً أو مقدماً لمصالحه الخاصة على هموم وآمال وآلام شعبه، فكان هو البطن الذي يجوع حتى يشبع غيره، والبدن الذي يتعب حتى يرتاح من حوله، والعين التي تسهر حتى يشعر بالأمان من يقف محتمياً بظهره، فكان جبل البلاد الذي يثبت بثباته غيره.

 

أكاد أجزم أن الساعات الأربعة والعشرون الأولى بعد الاغتيال جعلتني أفكر ملياً بالمستقبل الذي تنتظره حركة المقاومة الإسلامية (حماس) خصوصاً على مستوى قيادتها، فهي الحركة التي فقدت الرجل الأول والرجل الثاني خلال شهور قليلة، ولكن مشاعر الخوف سرعان ما تحولت إلى سكينة واطمئنان حين رجعت بالسنوات قليلاً ورأيت كيف أتى بعد القائد قائد آخر أكمل المسيرة دون توقف أو تعثر، فهذه الحركة انطلقت بمعية ربانية وأهداف لم تمازجها حظوظ النفس ولذائذ الدنيا، فحركة يتسابق فيها القادة نحو الشهادة ليقولوا للعالم بأسره أن دماءنا ليست بأغلى من دماء أبناء شعبنا هي حركة قد أعدت العدة هيكلياً وتنظيمياً من أجل توريث القيادة دون أن يحدث ذلك فراغاً أو اهتزازاً على مستوى القطاعات والمؤسسات، وها هو اليوم القائد الأسد المغوار يحيى السنوار يأتي قائداً جديداً لمرحلة جهادية في تاريخ النضال حتى التحرير، ويوماً ما سيذهب السنوار إلى جوار ربه ويأتي من بعده آخر يقود الحركة من جديد.


إن غزة لا زالت تفضح وتعري من أزعج الأمة بنباحه تارةً وبصياحة تارةً أخرى، وإياك أقصد أيها المتصهين المسلم العربي حين أقول أنك قد أزعجتنا بنباحك، فما إن أتى خبر استشهاد القائد أبو العبد إلا ورأيناهم قد خاضوا في عرضه وجهاده وحياته كذباً وزورا، فقالوا أنه عاش القصور والفنادق وترك أهل غزة أمام البنادق، وقالوا أنه قد ملأ خزائن المصارف بمتاجرته بدماء أبناء شعبه، وقالوا أنه من ارتمى بأحضان الفرس وتنازل عن عقيدته، وقالوا ما لم يقولوه بأعداء الله من الصهاينة ولا عجب في ذلك لأنهم هم الصهاينة بأعينهم، ويأبى الله إلا أن ينتصر لأوليائه المجاهدين، وما هي إلا سويعات وتنتشر الصور والمقاطع المرئية عن حياة ذلك البطل التي كان ملؤها البساطة والزهد، وسرعان ما تناقل المشرق والمغرب تلك الكلمات والعبارات الموثقة لثباته وتمسكه بمبادئه وعقيدته، فرحمه الله لم يبدل أو يحول أو يتنازل من اجل قضيته كما زعمت الأبواق المأجورة لمن عرف عنه الجور والظلم والاستبداد، فهؤلاء من وصفوا خلال معركة الطوفان بأنهم حثالة الأمم لم توقظ الموضوعية والتجرد لديهم كل مشاهد فقد الأبناء والأحفاد في أسرة الشهيد إسماعيل هنيه لأن عبوديتهم للمال والجاه والشهوات كانت أقوى من أن توقظ بالحقائق والأدلة والبراهين.

 

إن التاريخ سيكتب في صفحاته عن مشاهد وصور لا يمكن أن نسيانها في مشهد الوداع الأخير للشهيد أبو العبد الذي سيبقى حياً عند ربه، فتلك الكلمات التي خرجت من أبو الوليد خالد مشعل كانت دروساً يجب أن تدرس وتورث للأجيال حتى يعي الجميع معاني ونتائج النصرة والخذلان، وتلك الزفرات والدمعات التي سالت في كل القارات وبمختلف اللغات وجميعها تبكي هنيه لأنها لا تنسى رجالها الأوفياء لقضاياها، وتلك الطرقات والميادين التي امتلأت عن بكرة أبيها في عشرات العواصم والدول تلبيتاً لنداء القائد الأخير وإن لم يكن حاضراً وشاهداً غليها، ففي وداعه لهذه الدنيا الفانية قد جعل العربي يلتحم مع الأعجمي، والتركي مع الهندي، فرحمك الله يامن باستشهادك توحدت المواقف، ورصت الصفوف، واستقام الجمع لأمر وخطب جلل، فعلى قبرك شآبيب رحمة الله تتنزل أيها التقي النقي، ونشهد الله أنك نلت ما كنت تختم به كل خطاباتك بقولك (وإنه لجهاد، نصر أو استشهاد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).


 

شارك

مقالات ذات صلة