السيد أنطون بافلوفيتش تشيخوف المحترم… “أبو القصة القصيرة” ورائدها.
لا عجب أنك أحد أشهر الكُتاب في العالم وأوسعهم انتشارا وأكثرهم تأثيرا، فالقارئ لقصصك تصيبه الدهشة من قدرتك على صياغة قصص تجتمع في تفاصيلها السخرية بالحزن والابتسامة، وتحمل في ثنياها عمق الرؤية والتحليل ودقة الوصف، وكشفا بارعا للصراعات النفسية والهزات الأخلاقية للإنسان من خلال نماذج بشرية من مختلف الطبقات والمجالات، وذلك بأسلوب يتوخى البساطة وإشراك القارئ في عملية الكتابة، حيث لا يكون مجرد متفرج فقط، بل يكون مساهما له حرية التأويل والفهم.
لأنك لا تفصح عن رأيك ليظل حياديا على الدوام. هذا الحياد الذي لا يمنع من اكتشاف تعاطفك العميق مع شخصياتك المعذبة والمسحوقة تحت عجلة الحياة بابتذالها وكآبتها… ولا غرابة أن التعاطف مع البؤساء والمحرومين من الناس صفة ملازمة لغالبية كتاب روسيا، بل إنه نقطة قوتهم، إذ اتسمت أعمالهم، أو على الأقل تلك التي اطلعت عليها، بالاحتجاج على القهر والظلم الذي يمارَس ضد الإنسان في روسيا التي تشبه أوضاعها حينئذ أوضاع بلداننا اليوم.
لأن غالبيتهم مر من تجارب قاسية كان لها دور كبير في انحيازهم إلى الإنسان الضعيف والتعبير عن همومه، وساهمت في ولادة إبداع خُتم بطابع التفرد بعبارة: “كُتبَ في روسيا”.
السيد أنطون بافلوفيتش تشيخوف المحترم .. أو دعني أخاطبك باسمٍ مستعار من بين أسماء أخرى كُنتَ تنشر بها قصصك على المجلات والجرائد: أنطوشا تشيخونتي. ها أنذا أعيد تصفح بعض أعمالك القصصية وبعضا من المراسلات بينك وبين ماكسيم غوركي، أفعل ذلك بحثا عما يميزك ويجعلني أكتب إليك دون غيرك، فأنتهي كل مرة إلى نفس الخلاصة تقريبا: قصصك تشبه حياتك.. قصيرة ومدهشة!
إن أكثر ما يدفعني لإعادة قراءة أعمالك هو تلك الدهشة التي تزرعها بداخلي قصصك.. الدهشة التي تتجدد كلما أعدت قراءتها، لأنني دائما أكتشف فيها شيئا جديدا، فإن لم يكن في القصة نفسها فهو في الغالب يكون في بنائها. وكثيرا ما تبهرني شخصياتك التي رسمتَها بمواصفات واقعية وعبّرت عن مكنوناتها بدقة.
في قصة يوليا فاسيلفنا «المغفلة»، مثلا، نرى شخصية الإنسان المستسلم لواقعه دون أي كلمة احتجاج على ما يتعرض له من نهب وسرقة. وفي قصة «وفاة موظف» نتعرف على ضعاف النفوس الذين يموتون خوفا من أصحاب السلطة. وفي «فرحة» ميتيا كولداروف نصادف صنفا تافها تفرحه قراءة تفاصيل حادثة دهس، تعرض لها في الطريق، على الجريدة. وفي قصص أخرى نكتشف البنية الذهنية لعبيد المناصب والمنافقين والمتسلطين الذين يستعذبون إهانة الضعفاء، والجواسيس وغيرهم من النماذج البشرية من مجالات شتى.
قد تبدو في بعض هذه القصص مبالغة في السخرية من الطبقات الدنيا في المجتمع، لكن من يُمعن جيدا في تفاصيلها يعرف بأنها لم تُكتب بغرض السخرية من البسطاء المسحوقين، وإنما من أجل نقد أفعالهم وتنبيههم إلى أوضاعهم المأساوية ومكامن الخلل في نمط تفكيرهم وتشوهاتهم النفسية والأخلاقية، التي تؤدي إلى انتهاك كرامتهم من طرف المسؤولين ممن يتواجدون في أعلى السلم الوظيفي، ومن طرف رجال الدولة والشرطة… وهذا ما يجب على كل مثقف أن يقوم به تجاه المجتمع الذي يعيش فيه.